ولما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة منعهم المشركون أموالهم في مكة، فأصابهم من ضيق العيش في المدينة ما أصابهم، وعانى كثير منهم من شدة الفقر ما عانى، وهم أبناء سادة قريش وأشرافها، ولا تسمح لهم عزتهم وكرامتهم أن يمدوا أيديهم إلى الناس بالسؤال، فأنشأ لهم النبي صلى الله عليه وسلم ملجأ يجمع بينهم، واختار له مكاناً متواضعاً بمسجد المدينة، وكان موضعاً مظللاً من ذلك المسجد، فسماه من أجل ذلك صفةً، واشتهر أهله بين أصحابه بأهل الصفة، وكانوا نحواً من أربعمائة رجل من مهاجري قريش، لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، فآواهم النبيصلى الله عليه وسلم في ذلك المكان، وكان بهذا أول ملجأ اتخذ للفقراء في الإسلام.
وكان لهذا الملجأ نظامه فيمن يدخله من الفقراء، فكان لا يدخله منهم إلا الفقير الذي لا يستطيع ضرباً في الأرض للكسب، فلا يجد من كسبه ما يغنيه عن قبول الصدقة في هذا الملجأ من المسجد، وقد جاء هذا الشرط في وصف الله تعالى لفقراء هذا الملجأ في الآية - ٢٧٣ - من سورة البقرة (للفقراء الذين احصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم، لا يسألون الناس إلحافاً، وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم).
وكان من نظامه أن جعل مدرسة لأولئك الفقراء، وكان مدرسة ليلية يتعلمون فيها القرآن وغيره من العلوم، لأن لهم عملا آخر سيأتي بيانه بالنهار، وبذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أول من جعل من الملاجئ مدارس، لتكون دور علم وتعليم، وينتفع الناس بها في دينهم ودنياهم، ولا يذهب ما يتصدقون به عليها سدى.
وكان من نظامه أن جعل لهم عملا بالنهار ينفقون منه على أنفسهم، ولا يكلهم إلى الصدقة التي يتصدق بها عليهم، لأنها لم تكن مورداً دائما، بل كان من عنده فضل من المسلمين أتاهم به إذا أمسى، ولأن الإسلام دين عمل وجهاد، فلا يرضى لفريق من أهله أن يقعد عن العمل، ويتكل على ما يتصدق به عليه الناس. فكانوا يخرجون بالنهار فيجمعون النوى، ثم يرضخونه ويبيعونه لأصحاب الجمال.
وكان من نظامه أن جعل منهم جنداً للمسلمين، فكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول