ونحن أمة الوسط في الفكر. وهذا يستلزم بسطاً في الحديث لا تفي به هذه العجالة. ولكننا نجتزئ بطرف منه: وأعني بالفكر جميع القوى العليا في العقل والروح. وقد ورثنا ذلك من كثرة التجارب والأحداث والحضارات الروحية والمادية التي مرت بنا، ففي مهود بلادنا وعلى ضفاف أنهارنا قامت أول المادية وما زالت تقوم وتدول وتنتقل على هذه الرقعة التي تسمى اليوم الشرق الأوسط. حتى انتقلت إلى الغرب على يد اليونان والرومان في حضارتهم الأولى، ثم جاء عهد النهضة الأوربية الحضارة الحالية وهي الحضارة الثانية فقط لهذه البقاع. والأولى هي حضارة الدولة الرومانية التي قامت على أسس عسكرية عنيفة ولم تتصل بالروح إلا بعد أن أخذت بـ (المسيحية) وهي وليدة الشرق أيضاً.
وعلى قمم جبالنا تعلقت قلوب أجدادنا بالسماء وبكت لله وأدركت وحدته واتصلت بها رسالات وحيه فأتت بالخير والبر والتفاؤل والاطمئنان والسمو بالإنسان وكانت للإنسانية بمثابة الأمومة المربية المسددة المرشدة.
وفي صحفنا كتب أول السطور بالقلم الهيروغليفي ثم الفينيقي الذي ابتدأ به التاريخ البشري والفكر العظيم والجهد العنيف يدون ويسجل ويختزل في تلك (القماقم) السحرية الصغيرة: الحروف والكلمات، فينتقل بذلك الفكر الإنساني إلى المرحلة الكبرى التي ترجم بها كلمات الله في الطبيعة، وبنى على أسسها علومه وآدابه إلى ما شاء الله أن يبني.
فإذا كان حاضرنا سيئاً بفعل الجهالة والجمود وعدم إدراك رسالتنا بعد أن تقسمت العرب دول غريبة عن العربية، فإن ماضينا يبعث فينا الثقة بأنفسنا وبما فيها من استعدادات كامنة.
وإن مستقبلنا ينادينا أن ننهض لوصل الماضي بالحاضر بالمستقبل حتى نؤدي دورنا المنتظر من الأمة الوسط التي ترضي حكمها أمم الأطراف التي فيها دائماً الغلو والإسراف.