ثقافة عامة هي بمكان المقدمة إليها والتمهيد لها، أفلا يستطيع الشاب الواعي دراسة الحقوق مثلا، من غير إحاطة بدقائق الكيمياء والفيزياء والرياضيات؟ أو لا يجزئه ويكيفه أن يعرف عنها الشيء المجمل المختصر؟ وطالب الطب هل يستحيل عليه تحصيله من غير معرفته بعلل الشعر واختلافات الكوفيين والبصريين؟. لقد شاهدنا محامين بارعين وقضاة لا يعرفون شيئاً من المشتقات ولا تحول التابع ولا صفات البروم، وشاهدنا أطباء كباراً استطاعوا أن يعملوا عمليات في شق البطن وفتح الجمجمة، على جهلهم الموازنة بين أبي تمام والبحتري، وشروط عمل اسم الفاعل.
فما العمل؟ أنا أرى، إذا كان في الدنيا من يسمع رأيي، أن نجعل مدة الدراسة الابتدائية والثانوية معاً سبع سنين على الأكثر يتمكن فيها الطالب من العربية بالمران والتطبيق وتنبيه السليقة لا بحشو رأسه بالقواعد وقتل وقته بمعرفة أوجه الإعراب حتى يقيم لسانه ويتنزه عن الخطأ الفاحش، ويبصر مرامي الكلام ودقائق معانيه، ويتعلم من دينه ما يمسك عليه إيمانه وخلقه ويرغبه في الخير ويصرفه عن الشر، ويمنعه الحرام؛ ويعرف من الرياضيات الشيء العملي الذي لا يستغني عنه من غير اشتغال بالنظريات المجردة، وما لابد من معرفته من علوم الطبيعة وقوانينها الأساسية وأسرار المخترعات، وأن يدرس الصحة والجغرافية والتاريخ العربي وأن يعرف مبادئ لغة من اللغات الغربية وأمثال ذلك فما أردت الاستقصاء بل التمثيل.
فإذا تخرج الطالب منها عرضنا عليه فروع الجامعة، فإذا اختار فرعاً منها حضرناه له في سنتين أو ثلاث، علمناه فيها ما يتصل به، فيكون في كل كلية قسم تحضيري فيه من العلوم ما يحتاجه طالبها، فيتلقاها الطالب برغبة فيها وحب لها لأنه هو الذي اختارها، ووافقت هواه، وظهر له النفع منها، وينجو بذلك من خلق شاعراً من حفظ طلاسم الرياضيات، أو الرسوب دونها والانقطاع عن المدرسة وحرمانه التحصيل من أجلها، وهو من بعد لا يحتاج إليها أبداً، ولا يتعلم كل طالب إلا ما يحتاج إليه مع اختصار مدة الدراسة وتقوية الاختصاص، وكسب الوقت الذي يستطاع الاستفادة منه في تقوية الأجسام بالرياضة، ومعرفة الوطن بالسياحات، والعناية بالتربية الخلقية والوطنية. . . ومن شاء بعد الاكتفاء بالدراسة الثانوية ودخول معركة الحياة لم نسلبه وقته وسلحناه بثقافة عامة يعلو بها مستوى