العطف وفيها كثير من الإشفاق وقال:(اسمع يا بني! إن لي نحواً من ثلاثين عاماً، لا أكاد أذكر أن يوماً منها قد مر دون أن أفكر أو أقرأ أو أكتب شيئاً في هذا العلم الذي تقول إنك تحيط به. ومع ذلك. . . فإني لا أظن أني أستطيع أن أقول ما تقول).
ومرت الأيام، وتوالت دروس أستاذي ريتشى، وتوالت عنايته بي: فكان يختار لي ما أقرأ، ويسألني فيما قرأت، ويفتح لي آفاقاً جديدة للتفكير والتأمل. وبدأ نطاق العلم ينفرج أمامي، وبدأ طريقه يتشعب، هذا الطريق الذي كان يبدو لي، فيما مضى واضح المعالم بين الحدود. وتزداد صلتي بأستاذي، مع الأيام، ويرى ما أنا فيه من حيرة، ولكنه لا يقول لي عن ذلك شيئاً. ويقارب العام نهايته، ونحن نسير يوماً، وإذا هو يقف ويسألني باسماً:(هل تذكر ما قلت لي بعد درسي الأول؟ ألا تزال تظن أنك تعرف موضوع علمنا كله؟) فخجلت مما كان من اعتدادي بنفسي وقلت له: (لست أدري ماذا جرى. ولكن الذي أدريه هو أني أحس وكأني لم أعد أعرف شيئاً). فضحك وقال:(إني الآن سعيد. لقد أخذت بيدك إلى أول الطريق. لقد بدأت تعرف. إنه حق ذلك المثل الذي يقول، لو عرف الإنسان أنه جاهل لكان هذا قدراً غير قليل من المعرفة. ولكني لست أدري هل تحمد لي ذلك في مستقبل أيامك، أم سوف يساورك الشك أحياناً، وأنت تضرب في هذا الوادي، وادي المعرفة، الشبيه بوادي التيه، فتسأل نفسك: ما الفائدة؟ ما الفائدة من كل ما أضعت من أيام شبابي في الضرب في هذا الطريق الذي لا ينتهي؟).
وإنه ليعبر الطريق ذات يوم فتكاد سيارة تدهمه فيقص على الخبر. وكنت أعلم أنه لم يكن، في ذلك الحين، زوجاً ولا أبا، وأنه لا تربطه بدنياه هذه الروابط التي كنت أظن أنها هي كل ما يفرغ الناس من الموت فقلت له:(كنت أعتقد أنك لا تخاف الموت) ففكر قليلاً ثم قال: (ألا تدري أن بين يدي كتابين لما أتمهما. لو أني انتهيت منهما لكان سيان عندي أن أموت أو ألا أموت).
وتمر السنون وأزداد معرفة بأستاذي، فأرى كيف رفعه علمه إلى حيث لا حدود ولا قيود، إلى حيث يحس جوهر الأشياء الذي يستتر وراء مختلف الصور: صور المذاهب والأوطان والأجناس، التي لا ينفذ إلى ما وراءها إحساس عامة الناس. لقد كان (عالما). والعلم قبس من نور الله، لا شرقي ولا غربي.