للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وحدي لكنت الوجود بتمامه وكماله، ولم أكن أفكر ساعة الموقعة إلا في شيء واحد هو (أنا).

لا أدري كيف لم تغب شمس ذلك النهار، لأن الجو كان مناراً بآلاف من ومضات المدافع وشرار البنادق فكان من مجموعها يتألف نور وضاء ساعد على مواصلة القتال.

لم يكن الزاد ينقصنا، وأكوام الذخيرة تطمئننا على أن في وسعنا الدفاع عن أنفسنا حباً في البقاء.

أين الراحة؟ كيف السبيل إليها والموقعة ما برحت تتطلب الدماء!! لقد ارتوت هاتيك البطاح بدماء المتقاتلين فلمن منهم تنبت الإصلاح يا ترى؟ كنا نتقدم تارة ونتراجع أخرى، هذه هي الحرب السجال ولكن متى تنتهي الموقعة أو تخمد نارها؟

انبلج الفجر، وأشرقت الشمس، وأقبل الليل الثاني!! لم أعد أحس بحماس للحياة، ولا بدافع إلى البقاء، إنما أنا في حاجة إلى النوم، إلى نوم عميق طويل ينقدني من نفسي، إلى هروب من هذه النفس التي تحوطها عناية الله، وينزل بها بلاء الإنسان.

يا للشيطان!! هل هناك تناقض بين غايتين غاية الله في الحياة وغاية الإنسان في إزهاق الحياة؟

ألقيت بجسمي في حفرة من هذه الحفر التي شققناها بمعاولنا وأظافرنا فصارت خنادق طويلة عميقة، ألقيت مسدسي كأن لم يعد لي حاجة إليه ونمت.

كم ساعة قطع النوم من عمري؟ لا أدري!! أقسم لكم يا إخواني أن لو اتصل نومي بالأبدية لما قلت إلا أنه الراحة الكبرى. . . ولكني استيقظت. لقد أيقظتني مياه غمرت الخندق وقد بلغ ارتفاعها فمي، وقد أخذت امتصها مع التنفس وكدت أختنق من الغصّة. نهضت كالكلب المبلول، أنفض جسمي والسعال يكاد يخنقني وكنت أرتعد من البرد، وإذا بجماعة من الجند يصوبون فوهات بنادقهم إلى صدري، سمعت منها رطانة تنبهني إلى أني أسير.

عرفت بعد إذ بلغت مكان الاعتقال من زملائي الأسرى الذين جاءوا بعدى أننا لم نخسر تلك الموقعة، ولم نفقد مراكزنا الأمامية، ولكن حين شعر الأعداء بإعيائنا وبحاجتنا إلى الراحة، خففوا ضغطهم علينا، وعند ما طلبنا الراحة مستسلمين للنوم، حوّلوا مجرى مياه النهر نحونا فغمرت خنادقنا وأغرقتها، فغطس فيها من غطس غرقاً، ونجا من الموت من

<<  <  ج:
ص:  >  >>