آنا لا سلطان لنا عليها، ولا يد لنا فيها. لكل فعل سببه الكافي. والقائلون بالاختيار يذهبون إلى أن الفعل الإرادي أو الحر هو الفعل الذي وإن كان للقيام به سبب كاف، فإنه - أي الفعل - ليس ضروريا. وتهافت هذا التعريف ظاهر لا خفاء به. فإنه إذا لم يقع حدث أو فعل ما، فلأن سبباً كافياً لوقوعه لا يوجد. إن السبب الكافي يرادف الضرورة. والإنسان، كسائر المخلوقات، خاضع لقانون الضرورة، للقدر، أو - إن شئت - لإرادة الله؛ والخير والشر، بعد، معنيان نسبيان، فالأول يرادف الموافق أو المرضى، والثاني يرادف المكروه أو الغير الموافق. و (المصلحة) هي الحكم الفصل في الأخلاق وفي كل شيء. أما الخير المطلق، والشر المطلق، والعدالة المطلقة، والفضيلة المطلقة، فأوهام ابتكرها العقل اللاهوتي، وما بعد الطبيعة. . .
إن فلسفة (هوبز) السياسة تتفق مع هذه المقدمات الأنطلوجية. فالحرية ممتنعة عنده في ميدان السياسة، كما هي ممتنعة في ميدان الأخلاق، وميدان ما بعد الطبيعة. وإنما الحق للقوة، في الدولة وفي حال الطبيعة على السواء. وحالة البشر الطبيعية عبارة عن (حرب الجميع (ضد) الجميع). والدولة هي الوسيلة التي لا بد منها لوقف هذا الصراع. وهي تحمي حيات الأفراد وأموالهم في مقابل خضوعهم لها خضوعاً مطلقاً. فما تأمر به خير، وما تنهي عنه شر، وإرادتها هي القانون الأعلى.
لا نريد أن نقف عند هذه النظرية التي تقول بضرورة الحكم المطلق، والتي هي النتيجة المنطقية لمذهب المادة. وإنما نريد أن نشير - في ختام هذا البحث - إلى أن هوبز يختلف عن بيكن في ناحيتين هامتين: أما أولاهما فهي أنه يقول بنظام ميتافيزيقي: النظام المادي. وأما الثانية فهي أنه يعطي القياس قيمة تفوق قيمته عن بيكن. لقد أغفل هذا الأخير، حين جعل الاستقراء المنهج الكلي، أمرين:
١: الدور الذي يلعبه الاستنتاج في الرياضيات.
٢: الدور الذي لعبه العنصر الرياضي والنظر القبلي في مكتشفات القرن الخامس عشر. ومن هنا فإن هوبز يقف موقفاً وسطاً بين مذهب التجربة الخالص ومذهب ديكارت العقلي.