للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أقعده الأعياء، وهو يهتف: (نعم! مسكينة يا حنان) ألم ينطق بتلك العبارة من قبل عندما قصت حنان عليه قصتها المحزنة؟ ألم تذرف حنان وقتئذ دموع الشقاء بين يديه فأرمضت قلبه؟ إذن كيف يتركها تذبل وتعذب؟ كيف يقتلها بالهجر وهو لم يقس قط؟ كيف لا يعطف عليها ويؤنس وحدتها؟ إن في حبه لها صداقة، والصداقة عاطفة تجمع بين القلب والعقل. أليس من واجب الصديق أن يعين صديقه؟

ملأت الشفقة نفس حازم بغتة. وقد أثارها الحب ليستعين بها على العقل؛ فما كانت هنا غير قناع لبسه الحب فجأة فشلَّ العقل وأسكت الضمير. والحب قد يأتي بالمعجزات.

وخف حازم إلى حنان يتمتعان بسعادتهما السابقة فيركبان سيارته ويتنقلان بين الرياض، فتستلقي حنان على الأعشاب الغضة تنظر إلى السماء بعينين حالمتين، ويضطجع حازم على جانبه بالقرب منها، تعبث يداه بالأزهار ويشع وجهه بالغبطة.

- ٣ -

وحدث ذات يوم أن قام حازم وحنان برحلة من رحلاتهما العزيزة إلى ضواحي القاهرة، ودهمهما الليل في طريق العودة. وكان الليل مقمراً، فأغراهما جمال الطبيعة بالبقاء حيث كانا على شاطئ النيل.

كان القمر يسيل رقة تلين الأبدان، وكانت أشعته تهبط على المياه كقبلة العاشق على كتف حبيبته فتسري فيها رعشة لذيذة وتهتز لها اهتزازاً لطيفاً. وكان هذا الاختلاج يسحر الناظر ويهدهد عقله فيغوص في هذا المزيج من الأشعة والماء.

وكان السكون رائعاً يقطعه بل يزيده صفير الصرصور المتتابع فتؤثر وحدة الصوت المتواصلة في المرء، فتصيبه غشيه هادئة ترفعه إلى عالم الأحلام، ويزيد نشوته عطر ثقيل من الزهور المختلفة ينتشر إلى جسمه فيثقل تفكيره وأطرافه.

كانت الطبيعة تنشد نشيدها الأبدي في معبدها الساجي، وقد أطلقت بخورها العبق، ولبست حللها الفاخرة، فيتصاعد إلى السماء تآلف من الأصوات والعطور والألوان، ينعقد سحباً رقيقة لازوردية رنانة تخلع على الأرض غموضاً مقدساً، يحير البشر فيعتريهم الخشوع ويغشاهم الوجوم.

وكانت حنان مستلقية على العشب، وقد أكسبها القمر شحوباً عاجياً ليس في الإنسان،

<<  <  ج:
ص:  >  >>