كل واحد فيه أن يأتي بما لم يأت به غيره، وإنما تحسن (أما بعد) في الخطابة والكتابة دون الشعر، لأنها أسلوب نثري، ولأن الشعر فيه من آثار الفنون ما ليس في الخطابة والكتابة، فيحسن التفنن فيه، ويقبح التزام أسلوب وا، حد في التنقل بين أغراضه. ومما ينسب إلى قس أيضاً أنه أول من خطب على شرف، وأول من اتكأ في خطابته على سيف أو عصا، وأول من كتب من فلان إلى فلان.
ولم يبلغنا من خطابة قس إلا قدر قليل لا يمكننا أن نعرف منه تماما كنه خطابته، ولا المميزات التي تمتاز بها من غيرها، ولا الدرجة التي يستحق أن يوضع فيها قس بين خطباء العرب، وإن كان قس في الخطابة مضرب المثل، وان كان الناسقد أجمعوا قديماً وحديثاً على تقديمه فيها، وقد قال فيه أعشى قيس:
وأحكم من قس وأجرأ مِلّذي ... بذي الغيل من خفان أصبح خادراً
وقال الحطيئة:
وأقْوَل من قس وأمضى إذا مضى ... من الرمح إذ مَسّ النفوسَ نكالُها
وقد يمكننا أن نحكم من القدر الذي وصل إلينا من خطابة قس حكما تقريبيا بأنه كان يعنى بالخطابة الدينية أكثر من غيرها، فكانت أكثر خطابته في الدعوة إلى التوحيد، والإيمان بالبعث والحساب، وما إلى ذك ممل كان يدعو العرب إليه، كما يمكننا أن نحكم أيضاً بأنه كان يؤثر فيها الألفاظ السهلة على غيرها، وكذا السجع القصير الفواصل لما له من التأثير في النفوس، وما كان له في ثقافته وعلمه وحكمته واشتغاله بهذه الدعوة العامة، إلا أن يدع التكلف في خطابته، ويخاطب الناس بهذه السهولة التي يفهمونها، وقد أنكر عليها بعض أدباء عصرنا هذه السهولة، فحكم بأنها خطابة إسلامية مختلقة على قس، وليست خطابة جاهلية ملائمة لما كان في هذا العصر من بداوة وخشونة، ولا يخفى أنه لا يمكن أن يستقل عصر من العصور بالتأثير في خطبائه أو شعرائه، وإلا وجب أن تتحد مسالكهم فيه، وألا يختلفوا في أساليبهم من حيث السهولة والشدة وغيرهما، وكم كان في الإسلام من خطباء يؤثرون الشدة في خطابتهم، وخطباء يؤثرون فيها السهولة على الشدة، فلا بدع في أن يهون بجانب الشدة في عصر الجاهلية تلك السهولة، وان تجتمع فيه كما اجتمعت في غيره الرقة والخشونة.