لفت نظر زميل طبيب إلى تحول المعركة من الجبهة إلى جناح فأجابني إجابة تهكمية أسكتتني، كان زميلي المتهكم ذاك، سبط القوام، عريض الألواح، بديناً يحسن السخرية والتندر. لقد أحسن ذلك الزميل مبلغ ألمي من تهكمه فتقدم مني يلاطفني ويطيب خاطري
في تلك اللحظة سقطت قذيفة بالقرب منا، أقول سقطت، لأن العجاجة التي أثارتها، والرجال الذين تراكموا منا فانقلبوا على الأرض، والحصى والحجارة والأتربة وقد عقدت سحابة داكنة فوقنا، ثم تساقطت علينا جعلتني أرجح سقوطها بالقرب منا
ألقيت جسمي بين يدي زميلي الطبيب البدين فاحتضنني كما تحتضن الأم ولدها، ورأيتني أتشبث به كصبي مقرور أو مرعوب انفجرت القذيفة بعيدة عنا، ولم أكد أنحى وجهي عن صدر زميلي حتى رأيت محفات جرحانا تطير في الفضاء وأحسست بجسمينا تحملهما عاصفة شيطانية كأنها خرجت علينا بغتة من أودية الجحيم ففقدت الوعي!!
لست أدري كم كان عدد الساعات أو الدقائق التي رحت فيها في غيبوبة أحسبها تماثل راحة الموت. . . ولكني تنبهت على معالجة إخراج وجهي من حمأة كادت تكتم أنفاسي
الحمأة لزجة كريهة الرائحة، وجفوني مقفلة بإحكام. . . أجفلت من نفسي. . . حاولت التخلص مما أنا فيه لأتبين حالي على حقيقته فإذا ركبتاي لا تسعفانني بالنهوض وساعداي غريقان في بركة من دم ولحم
دم ولحم؟!! صورة مفزعة وثبت إلى ذهني فكدت أجن، أخذت أنزع يدي كأني ملسوع، رفعت أصابعي إلى جفوني. . . رفعت أصابع ملطخة تنقذ جفوناً ملطخة؟! حاولت مجتهداً الابتعاد عن بركة أنا الغريق فيها، لأني ما كدت أنقلب على ظهري حتى أحسست أني أتوسد أرضاً مرملة. . . استعنت بالرمل على تنظيف يدي فكانتا تتلطخان من جديد؟! هل هما مجروحتان؟ لا أحس ألم جراح ولكنني أشم رائحة الدم. . . عدت إلى أصابعي أمسحها بالرمل، وإلى أهداب جفوني أغسلها بلعابي، كنت حتى تلك الساعة أجهل أن الدم كريه الطعم كريه الرائحة، ولكن لامناص من إنقاذ جفوني من التصاق أهدابها حتى أرى على أي حال أنا وفي أي بقعة من الوجود أكون، وهل من وسيلة إلى تضميد جراحي؟ وهل هي تنزّ وتتفصد، ولم يجل في خاطري أني كنت ميتاً ولا في حالة قريبة من الموت بل كانت دوافع الحياة تدفعني إلى الكفاح للنجاة مما أنا فيه