غير أن تذكر لنا أصولها وتطوراتها حتى وصلت إلى صورتها الأخيرة، ومن شأن هذه المفاجأة أن تربك العقل لسقوط بعض الحلقات في سلسة تطورها، ومن أجل ذلك نستميح القراء و (الرسالة) الصفح لهذا الاستطراد الذي لا مفر لنا منه ولا غنى لنا عنه لفهم الزندقة في عهد المهدي فهماً يسيراً لا تعقيد فيه ولا مفاجأة.
في الفصل الذي عقده القلشقندي للكلام في المجوسية وفرقها يقول:(المجوسية: وهي الملة التي كان عليها الفرس ومن دان بدينهم) ثم يقسمهم ثلاث فرق: الفرقة الأولى الكيومرتية والثانية الثنوية والثالثة الزرادشتية، وفي الزرادشتية يفصل القول في زرادشت وماني ثم يذكر مزدك. فهو يطلق المجوسية على كل المذاهب الفارسية، وترتيبه الفرق على هذا النحو يدل على إنه يذهب إلى إنها قد ظهرت في التاريخ كذلك: الكيومرتية ثم الثنوية ثم الزرادشتية، وكل هذا غير صحيح، وسندلى بحججنا في ذلك إن شاء الله، على إنا لم نجد في ما قرأنا من رتب هذه الفرق من حيث ظهورها في التاريخ فلابد من ترتيبها الترتيب الصحيح.
سبق الكلام في الكيومرتية وإنها الفرقة المجوسية الأولى وأقدم الفرق الفارسية بلا شك، وهي كذلك في رأي القلقشندي فأما الثنوية فلم يقل فيهم إلا ما نصه:(هم على رأي الكيومرتية في تفضيل النور والتحرز من الظلمة، إلا إنهم يقولون: إن الاثنين اللذين هما النور والظلمة قديمان) قد أنكرا عقلاً أن تظهر في التاريخ الثنوية قبل الزرادشتية لأن الزرادشتية لم تقل بقدم النور والظلمة، بل ذهبت مذهب الكيومرتية في سبق النور الظلمة، ومعنى ذلك - كما فهمنا من الكيومرتية والزرادشتية - القول بتضاد الأشياء وتعاقبها وإن النور قد سبق الظلمة في الوجود أما القول بقدم النور والظلمة معاً ففكرة زائدة جديدة، فمن المنكر عقلاً أن تظهر الثنوية القائلة بالقدم قبل الزرادشتية، لأن رأيها أعقد من رأي الزرادشتية، والآراء - ككل ما في الوجود - تبدأ بسيطة ثم تتعقد، ولا عكس، ومن أجل ذلك شككنا ثم أنكرنا رأي القلقشندي في وضع الثنوية قبل الزرادشتية ورجعنا إلى ما بين يدينا من المصادر فوجدنا فيها ما يؤيد هذا الإنكار، ونبادر بدفع ما قد يسبق إلى العقل من توهم يوقعنا فيه ما يدل عليه لفظ الثنوية لغوياً، وهو إن الثنوية تطلق على كل القائلين بأن للكون أصلين: النور والظلمة؛ أو خالقين أحدهما إله النور يزدان وإله الظلمة أهرمن. بل