إن الثنوية فرقة يميزها سائر الفرق القائلة بأصلين: النور والظلمة - إنها تقول بقدم الاثنين كما حكى مذهبهم القلقشندي، فالقول بالقدم ركن هام في العقيدة الثنوية.
ويسند ابن النديم في الفهرست القول بالقدم إلى ماني المولود في سنة ٢١٥م فيقول إنه (يزعم بأن العالم مصنوع من أصلين قديمين هما النور والظلمة، وإنهما أزليان سرمديان، وإنه ما من شئ إلا وهو من أصل قديم) وكل ما ذكره ابن النديم صحيح، ولكن ليس ماني أول من قال بقدم الأشياء من بين الحكماء عامة ولا حكماء الفرس خاصة. لقد ظهرت الثنوية بعد الزرادشتية وقبل المانوية فيما نرى، فلنتكلم في الزرادشتية قبل الثنوية، ولينظرنا القراء الأدلة على رأينا وبيان المراد من الثنوية ومن ظهر مذهبها على يده إلى حيث الكلام في الثنوية إن شاء الله.
ظهرت الزرادشتية بعد الكيومرتية وصاحبها الذي تنسب إليه هو زرادشت أول حكيم يعيه التاريخ من حكماء فارس، وقد ظهر في عهد الملك كيستاسف السابع من ملوك الكيانية وهم الطبقة الثانية من ملوك الفرس، وكان مولده في منتصف القرن السابع قبل أن ينهض الفرس بقرن كامل نهضتهم السياسية على يد كورش الأكبر (٥٥٠ق. م) ويستقلوا ببلادهم ويطردوا منها الميديين ثم يمتلكوا ميديا أيضاً ويخضعوا الليديين في آسيا الصغرى وتصل حدودهم إلى البسفور، لقد سبقت النهضة العقلية في فارس النهضة السياسية بأكثر من نصف قرن كما سبقت النهضة العقلية في الصين والهند بنحو قرون فلم يولد جوتاما مؤسس الفلسفة البوذية في الهند ولا كنفشيوس مؤسس الفلسفة المنسوبة إليه في الصين إلا في منتصف القرن السادس قبل الميلاد.
وليس من همنا هنا أن نخوض بالإثبات أو النفي فيما يحيط به الفرس حكيمهم زرادشت ومولده وخلقه وحياته من مناقب ولا فيما روته القصص الفارسية في ذلك من أساطير مما يدل على إنهم كانوا يكنون له أسمى درجات الحب والتقديس، ولمن شاء ذلك أن يرجع إلى المبسوط من كتب التاريخ وكتب الملل والنحل وكتب الفلسفة، كما إنه ليس مما يعنينا الحكم على هذه الروايات فلها مثيل عند كل الأمم قديمها وحديثها في موقفها تجاه أبطالها أياً كانت الناحية التي برزوا فيها، ولن نعرض لما نسب إليه من صلات ببعض أنبياء بني إسرائيل وما قيل عن تأثير ذلك فيه وما كان من خيانته وهربه من فلسطين إلى بلخ فكل ذلك فيما