أرى زعم يهودي أساسه العصبية اليهودية التي تأبى إلا أن تحتجز الفضل في كل نبوغ في اليهود، وترد كل نبوغ خارج عنهم إلى أصل فيهم، وحسبنا من الكلام في زرادشت أن نبين إجمالاً تعاليمه التي كان لها أثر في الزندقة الفارسية قبل الإسلام ثم الزندقة على عهد المهدي العباسي، وحسبنا في هذا الإجمال ما يجنبنا المفاجأة المربكة.
ولد هذا الحكيم في منتصف القرن السابع في أذربيجان من إقليم ميديا الذي كان تابعاً في ذلك الوقت للدولة الكيانية التي عاصمتها بلخ، وقد طوف بالبلاد الفارسية واتصل بكثير من حكمائها للدرس والمشاورة في العقائد والأساطير الكيومرتية التي كانت قبله والإصلاحات التي تحتاج إليها فارس في عهده وهي تتأهب للنهضة السياسية التي ظهرت آثارها بعد وفاته، وقد اتصل بالملك كيستاسف في عاصمة بلخ واستطاع أن يقنعه بالدخول في مذهبه، وقد كان ذلك نصراً كبيراً له إذ عمل الملك على نشر مذهبه وإدخال الناس فيه فانتشر في جميع الأنحاء الفارسية، ومما أعان على ذلك بقاء زرادشت يبشر بمذهبه في الفرس خمساً وثلاثين سنة ومات نحو سنة ٥٨٣ق. م بعد أن عاش سبعاً وسبعين سنة، وقد خلف زرادشت مذهباً وكتاباً.
فأما المذهب فقد جاء به مصدقاً لما بين يديه من الكيومرتية أو الصابئية التي كانت قبله فأيد القول بإلهين اثنين أحدهما يزدان للنور والآخر أهرمن للظلمة لأنه وجد من المتعذر إسناد الخير والشر في العالم إلى مصدر واحد مع اعتقاده بأن يزدان أسبق من اهرمن وإنه خالقه، والقول بأن العالم خلق من النور يدل على عبقرية ثاقبة، ولولا ضيق المقام لفصلنا القول فيما تدل عليه هذه النظرة الرائعة، وحسبنا أن نشير إلى إنها لا تختلف عن النظرة العلمية الحديثة في بناء الكون، فقد فقدت المادة اليوم ماديتها بعد أن ثبت إن أجزاءها كالضوء ذات خاصية موجية، وإنها مؤلفة من كهرباء، وثبت ذلك بالبرهان المحسوس بعد أن أخذت صور البروتونات والإلكترونات المتحركة وثبت إن كتلة الإلكترون وهي معيار ماديته علتها حالته الكهربائية، وبذلك صارت المادة نوعاً من أنواع الطاقة، فيقال الطاقة المادية، كما يقال الطاقة الكهربائية والطاقة المغناطيسية بلا خلاف، ولا ريب إن زرادشت عبر عن هذا بلغة الأسطورة لا لغة العلم وإنه لم يصل إلى ذلك من طريق المنطق ولا التجربة، بل من طريق اللمح الفني العبقري المنبعث من الشغف القوي بالطبيعة، وقد كان