أما الأسواق، فلقد كانت فيها التجارة فصار فيها الاحتكار، وكان فيها قوم منا، يجلبون لنا أرزاقنا، فصار فيها أعداء لنا، يسرقون فيخزنون أقواتنا، ليجمعوا القروش من جيوبنا فيجعلوها ذهباً في صناديقهم، ولقد انتهت الحرب، وحل السلام، ولا يزال هؤلاء الفجار الأشرار يرفعون الأسعار، ويكوون الفقراء بالنار، لا يعرفون الإنصاف ولا الرحمة ولا الإنسانية. . .
أما دواوين الحكومة، فقد نسي من فيها أنهم أجراء الناس، يأكلون الخبز من فضل أيديهم، ويجلسون مجالسهم هذه لخدمة مصالحهم، وحسبوا أنهم ملوك والناس لهم خول، وسادة وهم لهم عبيد. ثم لم يكف أكثرهم ما يأخذون من وقت من يرجع في حاجته إليهم، ومن كرامة نفسه حتى أخذوا الرشوة من جيبه، وربما. . . وربما مدوا أعينهم إلى عرضه. . . وهم بعد ذلك جيش مجيّش، نصفهم لا يحتاج اليه، ولا ينتفع به، قد جاءت به الوساطات والشفاعات، فرفعته من غير كفاية على أهل الكفايات، ومن اقتصر منهم على مرتبه ليعيش به، عاش من قلة المرتب حياة هي كالموت، ولم يكفه المرتب ثمن الخبز، فكأن الحكومة تقول لصغار الموظفين: اذهبوا فاسرقوا لتعيشوا، فإن ثمن خبزكم أعطيناه لكبار الموظفين، لينفقوه على الترف والسرف والقرف.
ثم أن العلماء، وهم عدة الإصلاح، ولسن الحق، ودعاة الله، هربوا واختبئوا في بيوتهم، فمنهم من لا يرى المنكر ولا يعرفه، ومنهم من يراه ولا ينكره، ومنهم من ينكره همساً، ومنهم من يعلن ولا يعرف الطريق الموصل إلى رفع المنكرات، ومنهم من ملأت قلبه الدنيا، فهو يسعى إليها، ويزاحم عليها، وربما اصطادها بشبكة من لحية عريضة، وقيدها بسبحة طويلة، وأخفاها تحت عمامة ضخمة، وذل من أجلها للحكام، وخضع للأغنياء، وفقد القلب الذي يقتحم الأهوال، واللسان الذي يصدع بالحق، فغدا يقول ولا يستمع لقوله، وينكر ولا يلتفت لإنكاره، وجلهم لا قلم له يخاطب به الناس، ويسوقهم به إلى الحق، ولا لسان، فكيف يكون داعياً من لا يكون خطيباً ولا كاتباً؟
والقادة ما صاروا قادة بعبقرية اختصهم بها الله، ولا بعلم اختصوا به أنفسهم، وأحيوا في تحصيله لياليهم، ولا بعقل هو فوق العقول، وذكاء لا يدانيه ذكاء، ولكنها هي حرفة احترفوها ومسلك سلكوه: زيد وعمرو، أما زيد فجد واستقام ودرس حتى أكمل المدرسة،