للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

علوم الأقدمين من اليونان والرومان، وإحياء فنونهم وآدابهم؛ وأما الثانية، وهي ثمرة للأولى، فقوامها الانطلاق من ليل العصور الوسطى، والانعتاق من قيودها إلى حيث يفيض النور، ويتسع مجال التفنن والابتداع.

أقبل الناس على دراسة مخلفات اليونان والرومان في حماسة ولذة، وآمن الناس إيماناً قوياً بأن لهم أن يستمتعوا بالحياة أعظم استمتاع وأوسعه، فيغنموا ما في الدنيا من مسرات وزينة؛ فما منحوا الحياة لكي يقضوها متزمتين منها برمين بها؛ وأيقن الناي أن من أهم ما يجب أن تتصف به حياتهم الجديدة هو بث روح الجمال في النفوس والعمل على السمو بها حتى تستشعر الجمال وتبحث عن الجمال وتأنس به لا كمتعة من متع الدنيا فحسب بل كنشوة روحية لا غنى للروح عنها إن هي أرادت التحليق والسمو. وتمسك الناس بفكرة لن يحيدوا عنها، وذلك أن الله وهبهم العقل لينظروا ويتدبروا غير مقيدين بما سلف من آراء مهما بلغ من قيمتها، ولذلك كرهوا القيود كرهاً شديداً وأحبوا الحرية حباً شديداً، وظهر أثر هذا الحب فيما ابتدعوا من شعر ونثر، لا في مادة ذلك الشعر وذلك النثر فحسب، ولكن في الطريقة والصورة بل وفي الألفاظ المستعملة كذلك.

وملأ قلوب الناس التطلع إلى توسيع أفق الحياة العقلية في كل ناحية من نواحيها، وقد جاءهم ذلك مما تم لهم فعلاً من توسيع أفق الحياة المادية بعد كشف الدنيا الجديدة، نتيجة لمغامرة المغامرين منهم وراء البحار في الغرب وفي أسواق آسيا في الشرق؛ وأقبل الناس على كل طريف يتقصونه من الأنباء عن العالم الجديد وعن الشرق، فأثر ذلك في اتجاه عقولهم وفيما أنتجته تلك العقول، تلمس ذلك في الكثير من قصصهم ومسرحياتهم وما تعج به من مواقف مثيرة وحوادث تستهوي الألباب وأفانين من مبتدعات الخيال تبث الروح في النفوس وتحملها على الإعجاب والاستزادة وتيسر لها سبل الابتكار والخلق.

وطاف بالناس شعور بمجد وطنهم وعظمته وتفوقه على غيره، وبخاصة بعد أن حطم أسطولهم الأرمادا أسطول أسبانيا الهائل؛ كما ملأت أفئدتهم وطنية صادقة يلتقي عندها ويتفق عليها المتنازعون في الدين من الكاثوليك والبيوريتانز؛ وإلى جانب ذلك كله أنجب العصر من أفذاذ الرجال في كل ميدان من ميادين الحياة ما يصعب الوقوع على أمثالهم مجتمعين على هذا النحو في غيره من العصور، فلم تخل ناحية من النواحي من أماثل

<<  <  ج:
ص:  >  >>