نابهين، ففي الأدب والفن والفلسفة وفي الجندية والبحرية والسياسية والحاشية عظماء يزدان بهم العصر وتعظم بهم الحياة.
هذا هو العصر الذي كانت تستدبره إنجلترة ويستدبره ملتن، أو هذا هو الربيع الراحل؛ ولن تعدم المعين في أخريات الربيع أن تقع على زهرات شتيتة هنا أو هناك في جنته التي تنذرها أنفاس الصيف بالفناء القريب؛ ولن تعدم الأذن كذلك أن تسمع في ذلك الفردوس الذاهب نغمات حائرة بين الحياة والموت. وكذلك كان الحال في أخريات عهد إليزابث، فكانت بعض ثمرات العقول مثل كتابات بيكون لا تزال تقدم إلى المجتمع، كما كانت بعض ألحان العصر كأصداء الربيع الذاهب لا تزال توقع على أوتار شكسبير إذ لم تسكت تلك الأوتار إلا بموت صاحبها عام ١٦١٦ أي بعد ثمانية أعوام من مولد ملتن.
وأقبل الصيف في إثر الربيع فجاء منذراً بالقيظ تلفح أنفاسه لفحاً يبدو قاسياً وتشعر النفوس في مقدمه بالصرامة والقسوة والعبوس حتى كان ينسيها ذلك طلاقة الربيع ومفاتن الربيع.
تمكنت البيوريتانية من المجتمع وتسلطت على الناس؛ وكان ملتن يستقبل شبابه بينما كان ذلك المذهب يستقبل فتوته وسلطانه. واعتنق ملتن ذلك المذهب وتحمس له، ولكن كانت قد استقرت في حسه وخياله تلك المواكب التي انطوت، وتلك النغمات التي احتبست، فراح كالطائر المنفرد المتخلف يغني في هجير الصيف ألحان الربيع!
وما هذه البيوريتانية التي سوف يعتنقها الشاعر في شبابه والتي سوف تؤثر تأثيراً قوياً في مزاجه وفنه وسلوكه وموقفه من حياة عصره؟ أجل، ما هذا الصيف الصارم العابس الذي أعقب ذلك الربيع الرضى الطلق؟
جدير بنا أن نعرف أولاً من هم البيرويتانز ولماذا أطلق عليهم هذا الأسم قبل أن نتعرض لمذهبهم ونظرتهم إلى مسائل الحياة وأثر تلك النظرة في العصر الذي تم لهم فيه السيطرة والجاه.
أطلقت هذه الكلمة أول ما أطلقت على فريق من رجال الكنيسة في إنجلترة في عهد الملكة اليزابث، فقد أرادت هذه الملكة أن توحد طقوس العبادة في كنائس مملكتها جميعاً، وكان أبوها الملك هنري الثامن قد فصل الكنيسة في إنجلترة عن كنيسة روما عام ١٥٢٩ بسبب ما شجر بينه وبين البابا من خلاف يتصل بقضية زواجه، وجعل الملك نفسه الرئيس