للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كانت من قبل عروق الفحم في الأرض فنقبها العامل بصبره ومعوله، نائما على بطنه ومستلقيا على ظهره ومائلاً على جنبه ومنحنيا وقائما. وكلما نقب خطوات إلى الارتفاع المرسوم جاء بالأخشاب الغليظة فجعلها سقفا يحمل طبقات الفحم أو الطين حتى لا تنهال؛ تحمله من جانبيه قوائم من مثله أقيمت عمودية على جانبي الطريق. ولم يخل سيرنا في تلك الطرقات من تعب، فكثيرا ما كنا نسير فيها منحنين نحس السقف بأعيننا والأرض بأرجلنا؛ ولكنا كنا نتخذ من ذلك كله فكاهات نضحك لها. فمن كان يرانا عندئذ كأن يرى أشباحا يحمل كل منها مصباحا، ولم يخل منظر المصابيح يتلو بعضها بعضا من بهجة في تلك الظلمة؛ ثم كان يسمع أصواتا تتجاوب، فلا يكاد القائد يقول (وكثر ما كان يقول) رأسك والخشبة! حتى يرفع بها صوته من خلفه، ولا يزال فم يلقى بها إلى فم كلما مر بالخشبة شخص حتى تبلغ آخر الصف. وقد تسمع بين ذلك هذا يصيح: وا دماغاه! وذاك: وا ركبتاه! أو تسمع سائلا يسأل وآخر يجيب. وأحيانا إذا استقام الطريق كانت ترتفع أصوات بعض الغناء نغنيه معا، فنجد له عندئذ ما يجد الجندي الذي أتعبه السير الموسيقى. وكنا نظن أننا ذاهبون لنرى القاطعات الكهربائية التي تقتطع الفحم؛ فإذا بالقائد يقودنا كل تلك المسافة ليرينا الفحم أين هو! فلما سألناه عن القاطعات قال هي في جهة أخرى لا نصل إليها من موقفنا ذلك الا عند منتصف الليل. فرجعنا أدراجنا نقول: متى نبلغ؟ ولم نبلغه الا بعد الثامنة، فكتب كل منا أسمه في دفتر الزائرين ثم صعدنا فزرنا المولد الكهربائي الذي يدير تلك الآلات كلها؛ فإذا بآلات يحار فيها الفكر في غرفة عرضها عشرون خطوة وطولها خمس وعشرون، ويكفي لتقدير عظم آلاتها أن التيار يتولد عن قوة محركة كهربائية قدرها ٢٥٠٠ فولت، ولعل ترام القاهرة لا تزيد القوة المحركة لتياره على خمسمائة.

والعامل في منجم الفحم يتقاضى أجرا كبيرا لما في عمله من الخطر والمشقة، وهو يحاسب على كل طن يقتطعه، وقد يقتطع ما يؤجر عليه سبعة جنيهات في الأسبوع. وقد وجدنا أن المنجم مقسم إلى مناطق صغيرة كل منطقة لها رمز من عدد أو حرف تعرف به ويعرف به العامل فيها. وكلما ملأ عامل عربة كتب رمزه على كل قطعة ظاهرة من فحمها ليعرف أنها له فتضاف إلى حسابه. والمنجم الذي زرناه كان يستخرج منه في اليوم في ذلك الحين مائة

<<  <  ج:
ص:  >  >>