ونرى أن الصلة بين ديوانه (أغاني الكوخ) وبين ديوانه الجديد (الملك) قائمة على احسن حال من حيث الباعث اللاشعوري لإطلاق شعره، بيد أن الشعر في الديوان الجديد يتسم بمسحة ظاهرة من الأناقة ولا أقول التأنق، لأنه يحني الرأس في ساحة المليك، فإذا الشاعر الذي عرفناه في (أغانيه) وغيرها يهدر هدر الأمواج الصاخبة وينطلق بيانه كالسيل العرم الذي يحمل من الأرض كل ما يعلوها يستحيل نهرا صافي الأديم، رقراق الماء ينساب منمقا حوافيه على إيقاع نسمات الأصيل. .
فإذا افتقدنا هي هذا الشعر الجديد الفورة المزبدة، فقد أعاضنا الشاعر عنها الهدءة المؤنسة الموحية، ولهذه كما لتلك، جمال ودلال، ومذاق ومتعة.
ولا عجب أن يبدو محمود حسن إسماعيل أنيقا منمقا في شعره هذا، فأي امرئ لا يصلح من هندامه ونفض عنه ما عسى أن يكون عالقا به ويأخذ بأسباب الأناقة والنظام ما دام يعرف انه سيمثل بين يدي مليك البلاد!!
وثمة ظاهرة جديرة بالتوضيح في هذا الديوان، فإن أبياتا من الشعر قد وردت وهي تأبى إلا تكشف عن معانيها إلا بعد ممانعة ومماطلة، فهي تلوح ولا تفصح، وتومئ ولا تبين. وقد يتوهم البعض أن هذا غموض أو أغراب من جانب الشاعر في سوق المعاني، وما هو كذلك، وإنما هو طبع في الشاعر يدفعه أحيانا - وقد يصدر في هذا عن وعي أو في غير وعي - إلى أيراد بعض من معانيه في صيغة (التركيب) أو الأجمال. فتكون مناوشة ومصاولة بين المعنى وذهن القارئ ذي النظر والتأمل، وتكون متعة ذهنية دونها كل متعة يحسها القارئ بعد أن يمانعه الشعر في الكشف عن كل مفاتنه عند النظر العجلي
وقد تكون إلى جانب هذا الطبع الغلاب، نزعة من جانب الشاعر إلى أيراد غير المطروق والمبذول من المعاني فيأخذ بأسباب التنقيب والتوليد، ويمعن فيهما إمعانا قد يحوطه شئ من التعقيد الذي ينشط التأمل، فإذا الخطوط التي تستوي فيها معانيه منكسرة وليست مستقيمة، وقد تلم بأكبر قسط من حيز المعنى كما يشغل الخط المنكسر أطول مسافة وهو منطلق من نقطة إلى أخرى تقابلها في حيز المرسوم، ولكن المعنى على هذه الحال قد يأتي على غرار لم يألفه من تعود أن يلم بالأشياء في كامل كيانها عند النظرة الأولى، وعلى نمط لا يروق