أما (الفتح الإسلامي) فنسيج وحده في تاريخ البشر، لا يشبهه فتح ولا يدانيه ولا يقاس به. إن هذا (المذيع) رأى جانباً واحداً منه، وخفيت عنه جوانب: رأى الظفر في المعارك والغلبة في الميادين، فقاسها على أشباهها ونظائرها، وتحكم فيها بما أوصله إليه عقله، وما دفعه إليه هواه. . . أما الجوانب التي لم يرها، فقد وصفها الإمام العبقري ابن تيمية بكلمة جامعة، لو كان إعجاز بعد القرآن، لقلت إنها من معجزات البيان، هي:(إن المسلمين الأولين لم ينقلوا الإسلام إلى الأمم، ولكن نقلوا الأمم إلى الإسلام). إن في هذه الكلمة القصيرة سرَّ الفتح الإسلامي ومزاياه وعلة بقائه واستمراره، وهاك بعض البيان:
إنها لم تدر في الأرض رحى الحرب، لم يطأها جيش فاتح، إلا ابتغاء أرض يضمها الفاتح إلى أرضه، أو شعب يحكمه مع شعبه، أو غنائم ينالها، أو ثأر يطلبه، أو خيرات يستولي عليها، أو كنز يملكه، هذه هي غايات الحروب، وهذه مقاصد الفاتحين.
أما المسلمون فقد خرجوا يعلنون كلمة الله، وينشرون دينه، ويبذلون في سبيل ذلك دماءهم وأرواحهم، ويفارقون من أجله ديارهم وأولادهم، لا يريدون علواً في الأرض ولا استكباراً، ولا يبتغون دنيا ولا يريدون مالا. وهذه هي المزيه الأولى.
وكانت غايتهم إصلاح البشر في أخلاقهم ومعايشهم، وسعادة الناس في دنياهم وآخرتهم، فكانوا يحملون إليهم مفتاح هذه السعادة، وهو القرآن، فإن كانوا عقلاء وقبلوا الهداية واستجابوا لها، وارتضوا هذه السعادة ورحبوا بها، كفُّوا عنهم فلم يقاتلوهم، ولو وإن لم يقبلوا وركبوا رؤوسهم عناداً، ولم يحبوا أن يجلبوا لأنفسهم النفع ويمنعوا عنها الضرر، عدّوهم كالأولاد القاصرين أو المعتوهين والمجانين، لابد لهم من وصيّ يقوم عليهم، ويصرّف شؤونهم فيما فيه صلاحهم، وفرضوا عليهم أجرة قليلة هي كأجرة الوصيّ الأمين، فإن دفعوها برضائهم قبلوا منهم، وان والوا عنادهم وأبوا إلا الإفساد في الأرض، وأذى أنفسهم وإخوانهم في الإنسانية، دعوهم إلى الحروب، لان الإسلام يرى البشر كلهم كراكبي السفينة إذا أراد أحدهم أن يخرق موضعه، كان عليهم أن يمنعوه ويكفوه ويضربوا على يده، لئلا يهلك نفسه ويهلكهم معه، فكأن الإسلام وصل منذ أربعة عشر قرناً، إلى ما تسعى إليه الآن ولا تدنو منه (هيئة الأمم المتحدة). وهذه هي الميزة الثانية.
وكانوا إذا حاربوا، حافظوا على شرفهم، وأقاموا على كرمهم، فكانوا أشرف محاربين