عرفهم ظهر هذه الكرة، لا يغدرون ولا يمثلون ولا يجهزون على جريح، ولا يحاربون امرأة، ولا يعرضون لعاجز، ولا يمسّون معبدا ولا يؤذون متعبداً، ولا يحرقون داراً، ولا يفسدون ماء، وإن هذه الخلائق في الحرب تعدُّ غريبة في هذا القرن، الذي يسمونه (قرن العشرين)، ويزعمون أنهم بلغوا فيه نهاية الارتقاء، وذروة المدنية، فكيف وقد جاءت في القرون (المظلمة!!) التي يسمونها القرون الوسطى؟! هذه الثالثة.
ولم يكن يلهيهم عن غايتهم مال، ولا يشغلهم جاه، ولا ينسيهم هذه الغاية خطر، فكانوا إذا اشتد الخطب، وادلهمت المعركة وعبست، يلجئون إلى الله الذي حاربوا من أجله، وقاتلوا في سبيله. هذا قتيبة بن مسلم الفاتح المظفر، يثب عليه كمين من الترك، ويقع بين حجري الرحى، فيقول: انظروا إلى محمد بن واسع ماذا يصنع؟ فيقولون: هو قاتم هناك يشير بإصبعه نحو السماء، فيشرق وجهه ويطمئن، ويقول: والله لهذه الإصبع أحب إلي من عشرة آلاف سيف يشهر، أقدموا على بركات الله.
وكانوا يعملون لله وحده، لا لجاه ولا لذكر. هذا بطل الدنيا وعبقري الحروب خالد، يعزله عمر فيقاتل جندياً كما كان يقاتل قائداً، لأن الله لا يجزي القواد وحدهم ولكنه يجزي كل عامل مخلص. وهذا رجل لا يعرفه أحد، يفعل الفعلة التي تكسبه مجد الدهر ثم يخفي اسمه ولا يعلنه ويقنع بثواب الله: يلقى المسلمون في معركة من المعارك شدة وكيدا من أحد أبطال العدو، فينادي قائدهم إن من قتل هذا الرجل فله ألف دينار، فلا يصبحون إلا ورأسه ملقى في خيمة القائد ولا يعرف من قتله، ويسألون فلا يجابون، فيقوم القائد فيقول: انشد بالله من فعل هذا، إذا كان يسمع كلامي إلا خرج إلىّ. فيخرج رجل لا يعرفونه، فيسأله: أأنت فعلت هذا؟ فيقول: نعم. فيقول: خذ الجائزة فيأبى، ويقول: إنما فعلت ذلك لله وحده. فيقول له: ما اسمك؟ فيقول: وما لكم ولأسمي، أتريدون أن تنشروه في الناس، فتضيعوا عليّ ثوابي، وتفسدوا علي نفسي، دعوني.
ووقعوا - وهم المصحرون المعدمون، الذين كانوا يأكلون القد، ويتبلغون بالتمرة - وقعوا على كنوز كسرى، وإن الحبة الواحدة منها يأخذها الرجل تغنيه وتغني ولده من بعده، وما يراه إلا الله، فلم يغلًّوا منها شيئا وأدوها كاملة، لأن نّبيهم نهاهم عن الغلّ، ولأنهم إنما خرجوا لله، لا للمال ولا للكنوز! هذه الرابعة.