ثم إنهم إذا دخلوا بلدة لم يحملوا إليها الإسلام في محاضرات يلقونها، ونشرات يذيعونها، وكتب يطبعونها، فيكونوا هم الأساتذة أبداً، وأولئك كالتلاميذ، ويكونوا المتقدمين إلى كل خير، والمستأثرين بكل نفع، لا ولكنهم يدلون أهلها على منابع الإسلام، ويرشدونهم إلى الكتاب والسنة، ثم يتركونهم لينتقلوا هم بأنفسهم إلى الإسلام. فلم تمر برهة حتى سبقوا العرب وبزوهم، وكان منهم أُئمة الدين، وعلماء القرآن والحديث والفقه وعاد العرب الفاتحون وجلسوا بين أيديهم، وتتلمذوا عليهم، وأخذوا الدين عنهم. وهذه الخامسة.
ثم إن الفاتحين الأولين، لم يعلنوا عن الإسلام بألسنتهم ولم يدعوا إليه بأقوالهم، ولكن أروا الناس في أخلاقهم ومعاملاتهم وسيرتهم أمثلة من أحكام الإسلام، فحببوه بذلك إليهم ورغبوهم فيه، وها هم أولاء في حمص بعد أن فتحت لهم ودخلوها واخذوا الجزية من أهلها، يبلغهم أن الروم قد توجهوا إليهم، ويعرفون عجزهم عن مقابلتهم، وحماية أهل البلد الذين صاروا في ذمتهم ويعزمون على الخروج منها، فيدعون البطاركة والرؤساء، ويخبرونهم بعجزهم ويردون إليهم ما قبضوا منهم من مال الجزية كاملا فيبلغ العجب والإعجاب قرارات نفوسهم، ويقولون: والله ما رأينا مثل هذا من الروم وهم أهل ملتنا، وإن ديناً يأمر أصحابه بهذا لنعم الدين هو، ولأنتم أحب إلينا منهم، هذه السادسة.
ولم يَنْجلِ الفتح، عن غالبين ومغلوبين، ولا تزال تهيج بينهم الأحقاد، وتضرم نيران الثورات والحرب، كما هي الحال في كل فتح، وإنما انجلى عن أمة واحدة لها ربّ واحد، ونبي واحد وكتاب واحد، أمة مسلمة، فلا عرب ولا فرس ولا روم، ليس منهم من دعا إلى عصبيته، بعد أن تبت يدا أبي لهب العربي القرشي عم النبيّ، صلى الله عليه، وكرمت أيدي بلال الحبشي وصهيب الرومي وكان من أهل البيت الفارسي سلمان. هذه السابعة.
بهذا استقر (الفتح الإسلامي) وخلد، وبقيت هذه البلاد للإسلام إلى يوم القيامة، وإذا كان أحياناً حروب عصبية ومعارك على الملك، فإنما كانت لمخالفة قواعد الإسلام، والدعوة إلى العصبيات والقوميات، وجعل الخلافة ملكا، وتحويلها وراثية كسروية، ولو بقيت بكرية عمرية، لما كان خلاف ولا نزاع.
هذه هي الجوانب التي لم يشهدها ذلك (المذيع) ولم يعرفها، فحسب أن الفتح الإسلامي كفتوح هتلر، فتح غلبة وقهر. . . كلا إنما هو فتح هداية وإصلاح. على أننا كنا أقوى من