ويجلسان قرب الموقد نظرات ملؤها الإعجاب والمحبة؛ ويقول لمن حوله: لقد كنت أريد أن أجعل منه كلفن ثانياً بتوجيهه الوجهة الدينية وإلحاقه بالكنيسة، فإذا به ينفر من هذا ويأبى إلا أن يجعل من نفسه هوميروس آخر، ولست أحب أن أميل به إلى غير ما يريد ويهوى، ولئن فعلت ذلك فما آتى غير العبث، فليمض فيما هو فيه من شعر وأدب.
ويرهف الرجل أذنيه إلى ابنه إذ يتكلم أو يقرأ الشعر فتملأ نفسه الغبطة، فلهذا الغلام الجميل المحيا، فضلاً عن ذكائه ورشاقته، صوت حلو النبرات، موسيقى الجرس، وكأن مقاطع كلامه أسجاع مفصلة؛ وإن أذني أبيه لتحسان ذلك إحساساً صادقاً، فليس يلقى ذلك في روعه فرط محبته إياه، ولا هي أمنية يخالها حقيقة كما عسى أن يتوهم الآباء من صفات ينسبونها لأبنائهم وان لم يكن لهم منها شيء.
ولطالما ارهف الصبي أذنيه إلى الحان أبيه فطرب لها قلبه واستقرت نغماتها في أعماق نفسه؛ وإن أثر هذه الألحان ليبدو جلياً في أشعاره الأولى وهو بعد غلام، فأخص ما يميزها موسيقى حلوة تختلط بالنفس، حتى ألفاظه فإنك تحس في كل لفظ منها سحر الموسيقى، وتجده منذ أول شوط له قادراً على أن يختار اللفظ الذي يؤدي المعنى إلى الذهن ويطرب بوقعه وجرسه النفس.
كان أبوه مُوَثِّقاً وتلك هي حرفته التي اكتسب منها ماله، أما الموسيقى فكانت هوايته؛ وكان يكتب للناس الوثائق والعقود والظلامات وغيرها من ضروب الكتابة، وكان الموثق في تلك الأيام رجلاً عند الناس عالي المكانة ينظر إليه عامة الناس إلى عالم خبير، إذ لم يكن الأمر مجرد الكتابة، وإنما كان نوعاً من الكتابة يقتضي معرفة الصيغة الخاصة والعبارات التي جرى بها العرف، وذلك كله يطلب عند الموثق وله أجره على ما يكتب؛ وبقدر ما يتفق له من طالبي خبرته يكون كسبه؛ ولقد مهر الرجال في عمله وبات بحرفته ينعم برغد العيش.
واحترف الموثق حرفته في لندن؛ وقد جاءها منذ أن طرده أبوه من بيته؛ وكان أبوه يعيش على مقربة من أكسفورد، وكان مزارعاً من ملاك الأرض يتعصب للكاثوليكية تعصباً شديداً، فلم يعجبه من ابنه ميله إلى البروتستنتية وإقباله على البيوريتانية وعد ذلك منه مروقاً من دينه وعصياناً لأمره، ولما لم تجد معه حيلة طرده ساخطاً عليه. فلما جاء لندن اشتغل بالتوثيق فنبه فيه شأنه، وبنى له بيتاً تمتع فيه بهدوء الحياة ونعم بالطيبات من