أنتصف الليل أو تجاوز المنتصف ولا يزال صبي جميل في الثانية عشرة من عمره جالساً إلى مكتبه في حجرته الخاصة به في بيت أبيه بلندن يفرك عينيه الواسعتين الجميلتين بيديه الصغيرتين، وقد أخذ النعاس يداعب جفنيه، وأخذ الكلال يغمض مقلتيه، والمصباح يكاد زيته ينفد، بعد ساعات طويلة لم يكد يحول فيها الصبي عن الكتب بصره، وذلك دأبه في أكثر لياليه. وجلست على مقربه من الصبي إحدى الخادمات وقد أمرها أبوه أن تظل بقربه حتى يأوي إلى مضجعه؛ وقد أوى أبوه إلى مضجعه منذ وقت غير قصير بعد أن عزف بعض ألحانه الجديدة والقديمة كما يفعل كل ليلة ما عدا ليلة الأحد؛ وإنها لتعجب من إقبال الصبي على كتبه واستغراقه في قراءته على صورة لم تشهد مثلها قبل في صبي مثله لم يتجاوز الثانية عشرة.
وماذا يقرأ الصبي في تلك السن؟ أيقرأ القصص الخرافية وحكايات الجن وأشباهها مما يقرأ أنداده في مثل سنه؟ لا فهو لا يحب هذا النوع من الكتب كثيراً كما يحبها الصبية من أقرانه؛ ومثل هذه الكتب لا تكون إلا للتسلية، ولن يكون من أجل التسلية هذا السهر الذي تكاد تعشى منه العينان.
كان الصبي يقرأ كتب الأدب وعلى الأخص الشعر، وكان يقرأ التاريخ على قدر ما تسمح سنه، ويدرس اللغات اللاتينية والعبرية واليونانية والطليانية. وفي ليالي الآحاد حين كانت تجتمع الأسرة حول الموقد، كان يستمع الصبي إلى ما يذكر أبوه عن آخر لحن له من ألحان الموسيقى، إذ كان يشغل الأب نفسه بالموسيقى كما كان يشغل الابن نفسه بالقراءة، وكان لأبيه في صوغ الألحان حس مرهف وذوق مهذب وإن لم يكن طويل الباع؛ كما كان له إلى قرض الشعر ميل، ولكنه سرعان ما انصرف عن الشعر إلى الموسيقى إذ أعيته معاناة قرضه من أول الأمر. . .
وانه ليعجب إذ يستعصي عليه الشعر، وهو يجده سهل الانقياد إلى ابنه منذ سن العاشرة! وها هو ذا ابنه الآن في الثانية عشرة يسمع أباه وأصحابه من نظمه ما يطربون له جميعاً وعلى الأخص أبوه؛ وكان ينظر إليه أبوه في تلك الليالي التي يخلوان فيها من الجد،