الثالث فقد ذهبت الفتاة لتتلقاه على أستاذها، وهي تحمل حقيبتين تتضمنان كل ما لديها من ألبسة ومتاع. . .!
قال (زيد) احتجت في أحد الأيام إلى ترجمة مادة اللغة الإنجليزية فقيل لي: (عليك برجل روسي يدعى الأب جريجوري فهو مترجم من الطراز الأول، فذهبت إليه وطرقت الباب، فسمعت صوتاً من الداخل يقول (تفضل. . . تفضل. . .) ولما وطئت قدماي الغرفة وجدت في ركنها الأيمن رجلاً ذا لحية شقراء طويلة، وقد استلقى على سريره. فسألني أن أجلس وأفهمني بأنه يشكو قرحة في معدته، وبعد ثوان دخلت علينا من غرفة داخلية فتاة فتانة، آرية الهيئة، خرنوبية الشعر، عسلية العينين، ممشوقة القد، بارزة النهدين، وكان وجهها إذ ذاك ممتقعاً وعيناها تميلان إلى النعاس، وشعرها مشعثاً، وقد علت شفتيها ابتسامة مغتصبة، فمدت إلي أنامل طويلة رقيقة، ورحبت بي. . . فقلت للرجل: ألي الشرف بالتعرف إلى أبنتكم؟. . . ففتح جريجوري من بين شاربيه ولحيته فماً وأصدر منه ضحكة مزعجة وقال: كلا إنها ليست أبنتي. . . وأخذ يدها بين راحتيه وطبع عليها قبلة. . . وإنما هي سكرتيرتي. . . وزوجتي. . . وهي يهودية ألمانية. . .
لم يصدق الزائر ما سمع، وراح يجيل النظر في جريجوري تارة وفي الفتاة تارة أخرى، فاحتشدت في رأسه أسئلة عديدة حار في تعليلها. . . أقسيس ويهودية؟ أشيخ وصبية؟. . . أقبح وجمال؟. . . أموت وحياة. . . إلهي، كيف جمعت هذين الضدين؟ وكيف وفقت بين هذين العالمين؟
وخرج (زيد) من لدن الأب جريجوري وخرجت كلارا في أثره تشيعه، ولما بلغا الباب الخارجي قالت له: - لقد أصبحت الآن من معارفنا. . . فلا تبخل علينا بزيارات أخرى. . .
ورمقته بنظرة عميقة ساحرة. . .
وأقفلت الباب. . .
قضى (زيد) أياماً وليالي وهو يفكر في أمر ذينك المخلوقين، وكلما حاول تناسيهما عادا إلى مخيلته فتصور الأب جريجوري بلحيته الراسبوتينية، وهو يضحك، ويتألم من مرضه، وأرتسم أمامه هيكل المرأة الحسناء الغريبة الأطوار، فأحس بدافع الفضول أو حب المعرفة