للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نفسه بأن يكون ساعة أو بعض ساعة كالقططة بعضها مع بعض، لا كأطفال الناس مع أهليهم وذوي عنايتهم. وأبصر الهزيل من بعيد فأقبل يمشي نحوه، ورآه الهزيل وجعل يتأمله وهو يتخلع تخلع الأسد في مشيته وقد ملأ جلدته من كل أقطارها ونواحيها، وبسطته النعمة من أطرافه، وانقلبت في لحمه غلظا، وفى عصبه شدةً، وفي شعره بريقاً، وهو يموج في بدنه من قوة وعافية، ويكاد إهابه ينشق سِمناً وكدْنة. فانكسرت نفس الهزيل، ودخلته الحسرة، وتضعضع لمرأى هذه النعمة مرحة مختالة. وأقبل السمين حتى وقف عليه، وأدركته الرحمة له إذ رآه نحيفاً منقبضاً، طاوي البطن، بارز الأضلاع، كأنما همت عظامه أن تترك مسكنها من جلده لتجد لها مأوى آخر. فقال له: ماذا بك، ومالي أراك متيبساً كالميت في قبره غير انك لم تمت، ومالك أعطيت الحياة غير أنك لم تحي، أو ليس الهر منا صورة مختزلة من الأسد، فمالك - ويحك - رجعت صورة مختزلة من الهر؛ أفلا يسقونك اللبن، ويطمعونك الشحمة واللحمة، ويأتونك بالسمك، ويقطعون لك من الجبن أبيض وأصفر، ويفتون لك الخبز في المرق، ويؤثرك الطفل ببعض طعامه، وتدللك الفتاة على صدرها، وتمسحك المرأة بيديها، ويتناولك الرجل كما يتناول ابنه.؟ وما لجلدك هذا مغبراً كأنك لا تلطعه بلعابك، ولا تتعهد بتنظيف، وكأنك لم ترقطّ فتى أو فتاة يجري الدهان بريقاً في شعره أو شعرها، فتحاول أن تصنع بلعابك لشعرك صنيعهما؛ واراك متزايل الأعضاء متفككاً حتى ضعفت وجهدت، كأنه لا يركبك من حب النوم على قدر من كسلك وراحتك، ولا يركبك من حب الكسل على قدر من نعيمك ورفاهتك، وكأن جنبيك لم يعرفا طنفسة ولا حشّية ولا وسادة ولا بساطاً ولا طرازاً، وما أشبهك بأسد أهلكه ألا يجد إلا العشب الأخضر والهشيم اليابس، فماله لحم يجيء من لحم، ولا دم يكون من دم، وانحط فيه جسم الأسد، وسكنت فيه روح الحمار!

قال الهزيل: وإن لك لحمة وشحمة، ولبناً وسمكاً، وجبناً وفتاتاً، وإنك لتقضي يومك تلطع جلدك ماسحاً وغاسلاً، أو تنطرح على الوسائدوالطنافس نائماً ومتمدداً. أما والله لقد جاءتك النعمة والبلادة معاً، وصلحت لك الحياة وفسدت منك الغريزة، وأحكمن طبعاً ونقضت طباعاً، وربحت شبعاً وخسرت لذة، عطفوا عليك وأفقدوك أن تعطف على نفسك، وحملوك وأعجزوك أن تستقل، وقد صرت معهم كالدجاجة تُسمن لتذبح، غير أنهم يذبحونك دلالاً

<<  <  ج:
ص:  >  >>