للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أتشمم من الهواء لذة مثل لذة الطعام، وأستروح من التراب لذة كلذة اللحم، وما الشقاء إلا خلتان من خلال النفس، أما واحدة فأن يكون في شرهك ما يجعل الكثير قليلا، وهذه ليست لمثلي مادمت على حد الكفاف من العيش - وأما الثانية فأن يكون في طمعك ما يجعل القليل غير قليل، وهذه ليس لها مثلي مادمت على ذلك الحد من الكفاف. والسعادة والشقاء كالحق والباطل، كلها من قبل الذات، لا منقبل الأسباب والعلل، فمن جاراها سعد بها، ومن عكسها عن مجراها فبها يشقى.

ولقد كنت الساعة أختل فأرة انجحرت في هذا الشق فطعمت منها لذة وإن لم أطعم لحماً، وبالأمس رماني طفل خبيث بحجر يريد عقري فأحدث لي وجعاً، ولكن الوجع أحدث لي الأحتراس، وسأغسثى الآن هذه الدار التي بازائنا فأية لذة في السلة والخطفة، والاستراق والانتهاب ثم الوثب شداً بعد ذلك! هل ذقت أنت بروحك لذة الفرصة والهزة، أو وجدت في قلبك راحة المخالسة واستراق الغفلة من فأرة أو جرذ، أو أدركت يوما فرحة النجاة بعد الروغان من عابث أو باغٍ أو ظالم؟ وهل نالتك لذة الظفر حين هوّ لك طفل بالضرب فهوّ لته أنت بالعض والعقر ففر عنك منهزماً لا يلوي؟

قال السمين: وفى الدنيا هذه اللذات كلها وأنا لا أدري؟ هلم أتوحش معك، ليكون لي مثل نكرك ودهائك واحتيالك، فيكون لي مثل راحتك المكدودة، ولذتك المتعبة، وعمرك المحكوم عليه منك وحدك. وسأتصدى معك للرزق أطارده وأواثبه، وأغاديه وأراوحه و. . . فقطع عليه الهزيل وقال:

يا صاحبي، إن عليك من لحمك ونعمتك علامة اسرك، فلا يلقانا أول طفل إلا أهوى لك فأخذك أسيراً، وأهوى عليّ بالضرب لأنطلق حراً، فأنت على نفسك بلاء، وأنت بنفسك بلاء عليّ.

وكانت الفأر التي انجحرت قد رأت ما وقع بينهما، فسرها اشتغال الشر بالشر. . وطالت مراقبتها لهما حتى ظنت الفرصة ممكنة فوثبت وثبة من ينجو بحياته، ودخلت في باب مفتوح، ولمحها الهزيل، كما تلمح العين برقاً أومض وانطفأ، فقالللسمين: اذهب راشداً، فحسبك الآن من المعرفة بنفسك وموضعها من الحياة أن الوقوف معك ساعةً هو ضياع رزق، وكذلك أمثالك في الدنيا، هم بألفاظهم في الأعلى وبمعانيهم في الأسفل. .

<<  <  ج:
ص:  >  >>