أفق لم يكن ليبلغ في العلو مثله في غير ما يتصل بالدين؛ تجد مثلاً رائعاً في أنشودته الجميلة النبيلة التي نظمها سنة ١٦٢٩ وهو في الحادية والعشرين من عمره في عيد ميلاد المسيح وسماها (أنشودة في صباح الميلاد) وهي إذا نظرنا إلى سنة وقتئذ جديرة بالإعجاب حقاً، تستحق ما نالت يومئذ من عظيم الثناء ويستحق صاحبها ما اكتسب من ذيوع الصيت ونباهة الاسم. ولقد أحس كل من قرأها أنه تلقاء روح عبقرية وثابة غلابة تملأ النفس شعوراً بتكامل القوة وإعجابا بروعة الفن وافتننا بسحر الخيال. هذا إلى براعة الموسيقى وسمو اللحن وجلال الفكرة، ولعلها في زعم بعض مؤرخي الأدب أجمل أنشودة في بابها في اللغة الإنجليزية كلها.
تخلص ملتن في هذه الأنشودة من تأثير أوفيد، وما عسى أن توحيه أوصافه وصور جماله من فتنة وإغراء، وأراد أن يلبس معانيه لباساً روحانياً طهوراً وذلك بأن يطلق روحه من عقال الجمال اللغوي فيختار موضوعاً يواتي ما يطلب. ولقد جمع في أنشودته هذه بين جلال الدين وجمال الطبيعة، وكأنما أراد بذلك أن يشير إلى وضيفة الشاعر الملهم إلهاما قدسياً وإلى صفات فنه، فجاءت هذه الأنشودة مثلاً يضربه لمقدرته على التوفيق بين الجمال الذي يطرب له والسمو الروحي الذي يتعلق به.
تتألف هذه الأنشودة من سبع وعشرين فقرة بكل فقرة ثمانية اسطر؛ ومهد لها بمقدمة من أربع فقرات، فهي كما ترى ليست بالقصيرة وبخاصة إذا ذكرنا بعض ما يختص به شعر ملتن وهو الإيجاز البليغ الرائع في التعبير عن المعنى المراد، والإيحاء القوي الواسع في استعمال الكلمة المختارة.
يصف ملتن الطبيعة قبيل مولد الطفل وبعد مولده فيبدع ويعجب؛ ويصور فرحة الكون المتطلع إلى المولود تنبعث من سمائه وأرضه لحناً جديداً تغنى به الكواكب وتجاوبها الأرض ويمتزج به غناء الملائكة، فتنتشي انفس الرعاة والناس، ويحسون تآلفاً واتساقا بين موسيقى الكون وموسيقى نفوسهم؛ وما هذا اللحن الجديد الذي تتجاوب به أرجاء الطبيعة وتستجيب له الأنفس إلا رمز لما يبشر به المسيح وما يدعوا إليه من سلام وصفاء ومحبة. ويملأ الشاعر نشيده بما أبدع من صور، فهناك رهط الرعاة فوق المروج الخضر في هيئتهم القروية الساذجة. وهناك الصفان الأول والثاني من قبيلٍ أولي أجنحة من الملائكة