بين لابس خوذة وحامل سيف، ومدرع بدرع براق. ثم هناك رهط من الآلهة بين إغريقية وفرعونية، وأنماط من الأرواح الطيبة والخبيثة، وعدد من عذارى الميثولوجيا ومخلوقاتها من طير ووحش وجن. هذا إلى ما سوَّى خياله من مباهج الطبيعة ومفاتنها، وما ابتدع بيانه من ضروب التعبير وصور التشبيه، وأشكال المجاز، وألوان الاستعارة، تنظمها جميعاً موسيقى تكافئ موضوع الأنشودة وتواتي غرض الشاعر، وينهض كل أولئك على أدلة قوية على ذوق مطبوع وفن موهوب وذهن متمكن.
وكأنما أغراه نجاحه بأنشودته هذه بهذه الناحية الدينية فأراد أن يعكف عليها. فها هو ذا ينظم قصيدة جعل موضوعها صلب المسيح، وأخذ يمهد إلى ما لاقاه من ألم هائل وعذاب مخيف؛ غير أنها لم تصادف ما صادفته أنشودة الميلاد من هوى في نفوس سامعيها من أقرانه فكرهها وشهد على نفسه أنه أخفق فيها، وأمسك عن إتمامها لأنها (مطلب فوق ما يصح أن تتطاول إليها سنة يومئذ)؛ وكان ملتن على شدة اعتداده بنفسه يرى مواطن الضعف فيما يأتي من عمل فينتقد نفسه ويتخلص من ضعفه وتلك إحدى محامده ومن أجلها خليق بأوفر الثناء.
وفترت بعد تلك القصيدة حماسته لما هو موصول بالدين، وتطامن طموحه إلى حين؛ فأنصرف إلى مجال آخر لم يتناوله من قبل وهو مجال الطبيعة ومشاهدها وما أنبث فيها من جمال. ولعل إغلاق الكلية بضعة أشهر لتوقي الطاعون وزيارة ملتن أثناء ذلك للريف مما ساعد كذلك على إقباله على هذه الناحية الجديدة في شعره.
نظم ملتن في العام التالي قصيدة في عيد الربيع عنوانها:(أغنية في أحد أصباح مايو) فوصف شهر الورد وبهجته وما يبثه في النفوس من مرح وشباب وسحر، وكيف ترتدي الغابات والخمائل بردائها، وتزهى الربى والخمائل بنعمائه؛ ونظم قصيدة أخرى هي (نجوى البلبل) تفيض كسابقتها بإحساسه بالجمال والمرح وتعبر عن حيوية الشباب ولهوه؛ وتنبئ بأنه لا يزال يهفو إلى الحب قلبه وتتعطش إلى لذاذاته نفسه.
وبرهن ملتن بقصيدتيه هاتين على استعداد عظيم لوصف مشاهد الطبيعة، وتجلت في هذه الناحية مقدرته على الإيحاء والتصوير بالكلمة المختارة تجر وراءها مختلف الصور حتى ليرى المرء بعين خياله ما يرى مثله ببصره من صور الكون ومشاهده، وتلك موهبة تجعله