للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يصنع بألفاظه ما يصنع الرسام بريشته؛ وسيغدو ملتن من شعراء الطبيعة الأفذاذ في أدب العالم كله، وسيظل في الأدب الإنجليزي بعد شكسبير في وصف الطبيعة الشاعر الذي لا يتطاول إلى أفقه أحد. . .

وظهرت دلائل ما يعتلج في أطواء نفسه من حب في سلسلة من الأغنيات نظمها بالطليانية، بعد قصيدتيه الأخيرتين، وقد كتب إلى صديقه ديوداتي يقول: (أكتب إليك ما اكتب وأنا مندهش منه! أعلم أنني أنا الذي طالما تهزأ بالحب واحتقرته وضحكت من شركه وقد وقعت بغتة في هذا الشرك). والحق أن ملتن كان يومئذ يضطرب بين الاستجابة القوية لداعي الحب والخوف من ضلالاته حتى غلبه الحب على أمره، فأخذ يغني ألحاناً يشهد من قراءها أنها من أجمل ألحانه وأعذبها ارتفع فيها بالحب إلى جوه المثالي وأفقه العذري وخياله الشاعر.

وكانت الفتاة التي يشير إليها في أغنياته الجديدة طليانية الأصل يزينها نمط من الجمال الأجنبي يعد جديداً على نفسه جديداً في ناظريه، وقد أفتتن بمحياها الأسمر وعينيها الدعجاوين، وأخذ حبها بمجامع حبه، وأحست بموقعها في نفسه فلم تلبث أن بادلته الحب، وطارحته أحاديث الهوى، فقد نظم أغنياته بالطليانية استجابة لطلبها إذ قالت له (أن الطليانية لغة الحب).

ونظم ملتن في نفس السنة أبياتاً عن شكسبير لطبع في صدر مجموعة من آثاره، وتبين للناس مبلغ ما أوتي من قوة البلاغة ومهارة التعبير فضلاً عن أصالة الخيال الشعري وجماله. وحسبك منه قوله (ما حاجة شكسبير إلى صرح من الأحجار يعمل جيل في إقامته فوق عظامه المجيدة؛ ما حاجة رفاقه إلى هرم يومئ إلى النجم؟ يا ابن الذكر الحي يا أيها العزيز، ويا وارث الصيت المجيد، يا أيها العظيم ما حاجة أسمك إلى تزكية ضعيفة كهذه، وقد بنيت لك من إعجابنا ودهشتنا تمثالاً لا يبلى؟ إنك قد أفضت علينا من شعرك الدفاق ما يخجل حياله كل فن متعثر بطئ، وأستمد كل قلب من أوراق كتابك الذي يجل عن كل قدر، تلك الأسطر التي تنتمي إلى (دلفي)، تلك الأسطر الخوالد التي تركت فيه أعمق الأثر، ولقد سحرتنا عن أنفسنا حتى أحالتنا إلى مرمر من فرط ما تخيلنا وعجبنا! وكان لك وأنت هكذا دفين، من عظمتك ومن أبهى ذكرك وفخامة قبر من أجل الظفر بمثله يتمنى الملوك

<<  <  ج:
ص:  >  >>