ملك مصر المعظم ولشعب مصر، وقد أفرغت هذه الزيارة في قالب خاص من الود الصميم والمجاملة، فكانت خير ما يعبر عن العواطف الودية الأكيدة التي تشعر بها تركيا نحو مصر، ولما تناول القهوة والمرطبات أنصرف مشيعاً بالاحترام اللائق.
وأمضينا اليوم قياماً لا نملك وقتاً يتسع لطعام أو راحة، إذ المخابرات التلفونية لم تنقطع مع استنبول، والخدم في حركة وذهاب وإياب بين المحطة والمفوضية، وبينهما وبين المدينة لاستكمال ما يلزم لمأدبة العشاء التي سيحضرها رئيس الوزراء والوزراء، والتي ستعقبها حفلة ساهرة لمئات المدعوين.
وكنت مأخوذاً ذات اليمين وذات الشمال أتنقل بين الطابقين، ولما وجدت برهة أخلو فيها لنفسي أخذت أرتب ملابس السهرة وكانت الساعة السادسة مساء، فإذا بجرس التليفون يدق ويدعوني بسرعة إلى المستشفى العسكري، لأن القائم بالأعمال الأستاذ توحيد السلحدار بك قد أصيب في حادث تصادم وقع بين سيارته وعربة نقل محملة بالرمال. فتركت ما بين يدي، وخرجت مسرعاً إلى الطريق العام، وما لمحت سيارة أجرة من نوع فورد الخشبية، وهي التي تحمل أربعة أو خمسة من الركاب يشتركون فيها، حتى أشرت إليها بالوقف وقفزت فيها، وكان الأتراك يطلقون عليها اسم (قابتي قاشتي)، وأهل أنقرة ينطقون الكاف قافاً، ومعنى ذلك أخذ وهرب، أي أستلم وأسلم رجليه للريح. وذهبت إلى المستشفى وأدخلت فوراً إلى غرفة العمليات، فوجدت توحيد بك هناك والدم قد غمر بدلته وقميصه، ورأيت طبيب الغازي يعني به ويضمد جرحاً كبيراً في جبهته، ويعالج ذلك برفق وتؤدة، وقد بدا بعض الاصفرار على وجه الجريح، ولكنه لم يفقد شيئا من ثباته وهدوءه ورباطة جأشه. ولما أراد الطبيب أن يستعمل مخدراً يخفف من ألم الجرح وشدة وقع الصدمة رفض ذلك، إذ تمثلت رجولته في شجاعته وصموده واحتماله لما يشكو منه في رأسه ويده، فدهش من حضر لما رأوه يقظاً واعياً يحادثهم والطبيب يلازم عمله في خياطة جرح الجبهة.
وكان معنا في الحجرة نعمان رفعت بك وكيل الخارجية، وقائد الحرس الجمهوري، وهو ضابط يجمع في شخصيته مظاهر الجندية التركية التي خلدتها المعارك والحروب الدائمة والأخطار المزمنة، وكان شديداً فأطلقنا عليه (صاحب الضبط والربط)، قال: (إنه حضر بأمر عال من فخامة رئيس الجمهورية، وأن الأمر الصادر إليه يلزمه إلا يترك توحيد بك