لحظة واحدة حتى يستعيد قواه، وأن يتصل بالغازي مباشرة لأي حادث يطرأ. فشكره توحيد بك على هذه الالتفاته، وطلب إليه أن يرفع للرئيس شكر المفوضية وتقدير مصر قاطبة. ولما أتم الطبيب عمله وقام توحيد بك، التفت إليه وأعلمه بأن واجبه كطبيب يحتم عليه أن ينصحه بأن يستريح هذه الليلة ولا ينهك نفسه بالعمل). فأجابه بغير تردد:(كيف أقبل الراحة وقد دعوت الناس لحفلة مليكي؟ إن إخلاصي يملي عليّ أن أحضر الحفلة، أما الألم فشيء هين يسهل عليّ احتماله في سبيل قيامي بواجبي نحو بلادي، وقد اعتادت هذه الرأس أن تتحمل وتحمل الكثير). ثم التفت إلى قائد الحرس، وإلى وكيل الخارجية، وقد أبديا كلاهما ضرورة الرفق بصحته والعودة للراحة. فقال:(أبلغا الغازي والحكومة التركية أنني بخير والحمد لله، وأني لعاجز عن التعبير عن شكري لهذا الاهتمام الفائق الذي لا أعتبره موجها لشخصي، بل لمليكي وبلادي). وترك المستشفى مستنداً على ذراعي الطبيب وقائد الحرس، وركبنا سيارة أوصلتنا إلى منزله، وأستأذن وكيل الخارجية والقائد، وبقى معنا الطبيب لا يتركه حتى بدل ملابسه ولبس ثياب السهرة ووضع أوسمته، واتجهنا إلى دار المفوضية المصرية، وقد استعدت لحفلة الليلة كأن لم يحصل شيء، وكأن التصادم أمر كان لأيام مضت، ولم يظهر على توحيد بك غير رباط الجرح واليد.
وكان الوقت قد أزف لحفلة العشاء التي تبدأ في الثامنة، وأخذ المدعوون من علية القوم يحضرون ويأخذون أماكنهم، وفي مقدمتهم رئيس الوزارة التركية عصمت باشا، وهو الرئيس الحالي للجمهورية، وقبيل انتهاء المأدبة أخذ المدعوون للسهرة يفدون، وهم من كبار رجال الدولة والسلك السياسي بأكمله المكون من ثلاثين هيئة بين سفارة ومفوضية، وقد توزعوا في أركان الدار وحجراتها، وقد بدت تتألق في رونقها وحلتها.
وكان الجميع يهنئون بالعيد، ويستفسرون عن صحة توحيد بك، ويبدون إعجابهم بعزيمته، وقالت قرينة وزير النرويج:(لا أقدر أن أطيل النظر إليه وهو على هذه الحالة، فأرجو أن تنصحه ليعود إلى منزله فيستريح، إذ أخشى أن ينفتح الجرح في أي وقت فيسبب له نزيفاً). فقلت لها:(كيف يحصل هذا وطبيب الغازي يلازمه ملازمة الظل لا يتركه لحظة واحدة؟!)
وفي منتصف الليل تماماً، والناس في شغل بأنفسهم، وهم جماعات متفرقة، بعضهم يرقص