أكتفي بذلك، أما اليوم، فسمعت صوتاً جديداً، ونغمة حلوة، جعلاني أشعر بان هناك خارج حدودنا من يفكر مثل تفكيري، ومن يأخذ نفسه بالعمل الصالح لخدم بلاده). وكان الجمع قد ازداد حولنا، إذ وصل الغازي إلى القمة في أحاديثه، فأخذ يعبر عن روحه وإيمانه، وقد ارتسمت على وجهه عظمة الخالدين، وازداد إشعاع العينين من قوته الدافعة المؤمنة، وكان الفجر قد أخذ يبدو وراء الشفق والتلول التي تحيط بأنقرة، وأمامه شباك بعرض الحائط، وقد بدأت شمس يوم الاثنين ٢٧ مارس ١٩٣٣ تقدم علينا، فنظر إلى العدد المحتشدين من الأتراك وممثلي الدول الأجنبية، وحدقّ في وجوههم واحداً واحداً ثم قال:(إن نهضة تركيا شاملة، وهي ستعم ما حولها من الأمم، إذ ليس بالتهويش والوعود تحيا الأمم، بل بالإخلاص والعمل الصالح، وإني لألمس نهضة الشرق وشعوبه وأراها قادمة لا ريب فيها، كما أرى فجر هذا اليوم وقدوم شمسه إلينا. . . انظروا إلى ضوء الشفق يحمل إلينا الشمس من الشرق مطلع سراج الدنيا، إن العالم ينتظر بعثاً جديداً، وسيعود الشرق - كما بدا - قوياً عظيماً). . . ثم نظر يميناً وشمالاً وقال:(إن الذي يتكلم هو مصطفى كمال، لا رئيس الجمهورية التركية، مصطفى كمال التركي: إنني أشعر بأن الأمم في الشرق ستتخلص من نكباتها وويلاتها، وان أول ما تشكو منه هو الاستعمار، فهذا لن يعيش ولن يبقى حينما تبدأ يقظتها ووعيها واتجاهها للحقائق بدل الأوهام والأحلام
(إن أكبر دعائم الاستعمار هم رجال السياسة المحترفين الذين تستعملهم الدول الأجنبية لأغراضها. لقد تأكدت مما رأيت في بلد من البلاد - ولا داعي لذكر اسمه - إن تسعين في المائة من المتصدين للمسائل العامة عملاء للدول الأجنبية، يخدمون مصالحها على حساب أمتهم).
وكانت الشمس قد أشرقت، فقال:(انظروا إلى طلوع الشمس، انه يمثل لنا نهضة الشرق وأممه!)
وقام الغازي من مكانه، وقد وضع يده بيدي، وسرت معه إلى الباب الخارجي ومنه إلى سيارته، حيث ركب ومعه ناجي باشا وقال:(إنه يذهب لتناول طعام الفطور لدى أستاذه الجنرال ناجي باشا). وانتهت ليلة من ليالي مصر الخالدة بأنقرة!
كثر التحدث عن تلك الليلة، وما دار فيها من أحاديث، وعلّق الكثيرون من أهل الرأي