ثم رحنا نستمع إلى جحا لنتعرف كيف يعبر عن هذه المعاني الحزينة بأسلوبه الباسم الذي تنطوي في ابتسامته أعنف معاني المرارة والجد، رأينا العجب العجاب:
رأينا فيلسوفنا الساخر يحتكم إليه أربعة من عارفيه ليقسم بينهم زكيبة مملوءة بلحاً.
فماذا يصنع ليعبر بأسلوبه المرح عن تلك المعاني الملتهبة التي عرض لها أعلام الساخطين على توزيع الأرزاق؟
يقبل عليهم متبالها ويسألهم متغابياً:
(أي قسمة تريدون؟ قسمتي أم قسمة الله؟).
فيجيبونه على الفور: (بل قسمة الله يا جحا).
فيعطي أحدهم بلحات خمساً أو ستاً.
ويعطي الثاني حفنتين أو ثلاثا.
ثم يعطي الثالث كل ما في الغرارة من بلح.
ثم يحرم الرابع فلا يعطيه شيئاً. ويتركه يضرب كفاً على كف من فرط الحيرة والدهش.
فإذا سألوه: (أي قسمة هذه يا جحا؟).
أجاب في تغافل الساخر العميق:
(أليست هذه قسمة الله؟ أليس يعطي واحداً دراهم معدودة، ويعطي الثاني قليلا من الدنانير، ويعطي الثالث من خزائن الأرض وكنوزها ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة، ثم يترك الرابع فلا يعطيه شيئا).
أليس في هذا لون من التعبير الجحوي الباسم المرح يترجم عن قول من أسلفنا من كبار الساخطين؟
أليس في هذا لون من قول المعري:
(كذلك مجرى الرزق: وادٍ به ندى ... ووادٍ به فيض، وآخر ذو جَفْرِ)
وقوله:
(لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته ... فقير معرَّى أو أمير مدوَّج
وقد يرزق المجدود أقوات أمة ... ويحرم قوتاً واحداً وهو أحوج)
وقول الآخر: