أن تغفر لي هذه الكلمة فإنما اهمس بها في أذنك. اجل، إني أريش جناحي استعدادا لأن أطير فاحلق تحليقه).
وكان كتاب صاحبه هذا إليه، ورده عليه في أخريات أيامه في هورتون.
وما كان يريش جناحيه إلا ليطير في سماء عالية، ويحلق في أفاق فسيحة، فإن موضوعاً عظيماً لن يبرح يهجس قي خاطره، ولن يزال حديث نفس ومنتجع هواه؛ فأي موضوع هو ومتى ينهض له؟ ذلك ما لم يتبينه يومئذ على وجه التحديد؛ ولكن المرء يستطيع أن يستخلص من مادة دراسته من طول انكبابه عليها أنه يتأهب لرسالة عليا يتحقق له بها الخلود. ويقول الدكتور جونسون في هذا الصدد:(من هذا الذي يعد به وقد جمع فيه بين الحماسة والتقوى والتعقل يمكن أن نتوقع الفردوس المفقود).
على أنه لا يزال بينه وبين الفردوس المفقود سنوات طويلة، فماذا جرت به أراعته في هورتون، أو على الأصح ماذا تغنت به قيثارته؟
نظم ملتن ثلاث قصائد، وغنائيتين مسرحيتين أحدهما قصيرة تقرب من مائتي سطر، والأخرى طويلة نيفت على الآلف. ولئن عظمت شهرة قصيدته الكبرى (الفردوس المفقود) فيما بعد حتى بهر نورها القلوب والأبصار، وأنسى الناس هاتيك القصائد التي نظمها في هورتون، فإن جمهرة النقاد متفقون على أنه بلغ ذروة الفن في تلك القصائد الخمس، وعلى أنه لولم ينظم غيرها، لكانت كفيلة أن تحله في الصفوة المختارة من الشعراء المغنيين في العالم كله قديمه وحديثه، إن لم تجعل له موضع الصدارة بينهم أجمعين.
وقد نشرت تلك القصائد سنة ١٦٤٥ بعد رحيله عن هورتون بست سنوات ومعها بعض أشعاره اللاتينية. وكان ما ذكره ملتن عنها أنها بمثابة امتحان لقدرته وأنها مقدمة بين يدي وعده فحسب، ولم يفتأ بعدها يعد بعمل خالد في دنيا الشعر دون أن يشير إلى تلك القصائد كأنه نسيها أو كأنه لا يرى فيها شيئا يحقق جانبا مما يعد به، وتكشف تلك القصائد الجميلة الخمس، فضلا عما ترى الناس من مقدرته الفنية، عن كثير من خلجات نفسه واستجابة حسه ونوازع قلبه، ومتجه فلسفته. لذلك كانت عظيمة الخطر كسجل لحقبة من حياته، أما تلك القصائد فهي (الليجرو) و (البنسروزو) و (اركاوس) و (كومس) و (ليساوس).
أما الأولى والثانية فكلتاهما تعيض الأخرى في موضوعها؛ فمعنى الليجرو في الطليانية