بملء فيها إلى الرضا وإلى الاستسلام، ومنشأ هذه النغمة على ما أرى هو إيمان أصحابها بالقضاء والقدر إيمانا معكوساً؛ إذا هم قد حسبوا، وهم مخطئون فيما حسبوا، أن القضاء أو القدر لهما تأثير فعلي في فعل الإنسان وإرادته، وإذا كان الأمر كذلك فما قدره الله جل وعلا لابد واقع لا محالة، سواء أعمل المرء , أم لم يعمل، وإذا كان العمل، وترك العمل سواء، فمن العبث البين أن يكلف الإنسان نفسه مؤونة الجد والجهاد والمزاحمة في تلك الحياة، لأنه لن ينال على ذلك أجراً، غير ما كان يناله لو كف عن جده وجهاده، وليس غرضي الآن أن أبين خطأ ذلك التفكير، فانه من البين الواضح أن القضاء والقدر ليسا إلا علم الله فحسب بما سيكون، والعلم ليس من صفات التأثير بل هو من صفات الكشف والإيضاح لا دخل له في قدرة الإنسان وإرادته
الإيمان بالقضاء والقدر على تلك الصورة التي أسلفت ذكرها هو إيمان بالجبر، وإيمان بالحظ على الصورة السطحية التي لا تتغلغل في حقيقة الأشياء، فأنكرت قدرة الإنسان وإرادته ودعتنا إلى الضعف والاستسلام وأنتجت لنا هذا اللون من الأدب الضعيف قال الشاعر:
وما فسدت أخلاقنا باختيارنا ... ولكن بأمر سببته المقادر
وفى الأصل غش والفروع توابع ... وكيف وفاء النجل والأب غادر؟
فقل للغراب الجون إن كان سامعاً ... أأنت على تغيير لونك قادر؟
وقال أيضاً:
ويجرى قضاء مالكم عنه حاجز ... فألقوا إلى مولاكمو بالمقالد
وقال أيضا:
وجبلة الناس الفساد وفضل من ... يسمو بحكمته إلى تهذيبها
وقال أيضا:
لا تمدحن ولا تذمن امرأ ... فيها، فغير مقصر كمقصر
وقال غيره:
عزت مطالب دنيا كل ذي أدب ... وهان مطلب دنيا الأحمق الخرق
وقدر الله فيها أن يذللها ... فهان مطلبها للجاهل الحمق