فليس ينفك ذو علم وتجربة ... من مأكل جشب أومشرب رنق
وذو الجهالة منها في بُلَهنية ... من مسمع حسن أو منظر أنق
تبارك العدل فيها حين يقسمها ... بين البرية قسماً غير متفق.
ذلك شعر ينبع كله من واد واحد ومعين واحد، هو الجبر والإيمان بالقضاء والقدر إيمانا معكوساً، والإيمان بالحظ إيمانا ساذجاً، وسأترككم إلى أنفسكم تحكمون على هذا الأثر الذي يتركه ذلك الشعر في النفوس، وهل يقربها إلى مثلها العليا؟! أو هو على العكس من ذلك يؤخرها ويسير راجعا إلى الوراء، إنكم رأيتموه يدعونا إلى الرضا بفساد أخلاقنا؛ لأن الفساد ليس باختيارنا، ولكن بأمر سببته المقادر، ونحن عاجزون تماماً عن تغيير أخلاقنا عجز الغراب عن تغيير لونه، ورأيتموه يدعونا إلى الضعف والاستسلام للقضاء والإلقاء إليه بالمقالد، ورأيتموه يسوي بين الناس مقصرين وغير مقصرين، فكلهم لا يستحقون مدحاً ولا ذماً، لأنهم لم يأتوا ما أتوه بقدرتهم واختيارهم، بلمجبرون على أن يفعلوا ما فعلوا، ورأيتموه يقرن الرزق الواسع بالجهل، والرزق الضيق بالعلم، لأنه يؤمن بالحظ، وإذن فعلى العلم والتعلم السلام، لأن أحداً من الناس لا يرضى برزقه مقتراً، ورأيتموه يؤمن بالحظ ويزرى بالعمل والجد، فقدروا بأنفسكم ما يبعثه هذا الشعر في النفوس من ضعف واستكانة واستسلام تبعد بنا عن المثل العليا التي لا تثبت ولا تقوم إلا على دعائم من العمل ثابتة وطيدة، حقاً أنا أومن بالقضاء والقدر، وأنا شخصياً أومن بالحظ، ولكنه إيمان ليس كإيمان هؤلاء، إذ أني اعتقد أن الإيمان بذلك كله لا يحول بين المرء وعمله، لأنه ما يدريه أنه قد كتب له الشقاء وقدر عليه التعس، وأن حظه بائس منكود، وما يدريه أنه على العكس من ذلك قدر له السعادة، وكتب له النجح وان حظه حظ السعيد الموفق؟
وبعد ذلك آخذ بيدكم لأريكم أدب القوة والهمة والإرادة وهي هي التي تأخذ بيدنا إلى بلوغ المثل العليا، قال الشاعر:
ذريني من ضرب القداح على السرى ... فعزمي لا يثنيه نحس ولا سعد
سأحمل نفسي عند كل ملمة ... على مثل حد السيف أخلصه الهند
فان عشت محموداً فمثلي بغى الغنى ... ليكسب مالاً أو ينث له حمد
وإن مت لم أظفر فليس على امرئ ... غدا طالباً إلا تقصيه والجهد