ومن بديع لفتاته حين رأى صديقا له مكتئبا حزينا، فسأله عما يحزنه، فقال:
(لقد نشب بين زوجي وأختها عراك عنيف لا أدري كيف ينتهي، وقد جئت لأستعين بك على فض ذلك النزاع بحكمتك وكياستك).
فسأله جحا: (أتراهما تشاجرتا لاختلافهما على عمريهما؟)
فقال له: (كلا يا صاحبي لم يدر لهما هذا المعنى على بال).
فقال جحا: (عد إلى بيتك مطمئنا فلن يطول شجارهما يا صاحبي).
٩ - الإسراف والاعتدال
يقول الشاعر:
(يتمنى المرء في الصيف الشتا ... فإذا جاء الشتا أنكرهُ
ليس يَرضَى المرء حالا واحدا ... قتل الإنسان ما أكفرهُ)
ويستمع صاحبنا جحا إلى رجل يشكو زمهرير الشتاء ويلعن برده القارس، وينبري للشاكي أحد المتحذلقين فيعنفه على شكواه، ويقول له: (لقد كنت تشكو في الصيف الماضي وقدة الحر، وعنف القيظ، فما لك تبرم بالشتاء إذا جاء؟
فيعجز الشاكي وأصحابه عن الإجابة، ويلتفت جحا التفاته رائعة. فيقول:
(لقد طالما شكا الناس زمهرير الشتاء، وقيظ الصيف، فهل رأيت أحدا يشكو: اعتدال الربيع؟).
وكأنما أوحى بهذه الإجابة البارعة إلى ابن الوردي قوله في ذم الإسراف والغلو:
بين تبذير وبخلَ رتبة ... وكلا هذين، إن زاد قتل
١٠ - مناجاة النفس
ويقولون: إنهم سمعوا جحا يتحدث في غرفته وليس معه أحد، وكأنما يحدث شخصا آخر؛ فلما فتحوا باب الغرفة ليتعرفوا جلية الأمر وجدوه يحدث نفسه. فسألوه (كيف تحدث نفسك يا جحا؟).
فقال: (لقد برمت بغباء الناس وضيق عقولهم، وعجزهم عن فهم الدقائق التي تقصر أفهامهم عن بلوغها. واشتقت إلى محادثة بارع فطن ذكي يفهمني وأفهمه، فلم أجد غير نفسي،