عولس بكيده ودهائه وسكب في فمه زق خمر معتقة من دنان القس فوبوس إله آزماروس. فكرعها الوحش وسكر بنشوتين، ثم نام. فهب عولس وجمعه إلى النار فأوقدوها وأشعلوا رأس ذلك الغصن الذي يهش به الوحش على غنمه، وفقئوا عينه كما يطفئ الحداد عمود الحديد المشتعل بحوض من الماء.
وكان عولس حين تقدم إلى الوحش بخمره فسأله عن اسمه أجابه: اسمي أوتيس. ومعناها (لا أحد). فلما أحس الجبار بهول النار صرخ صرخة دوت في الجزيرة حتى مادت. فريع الجبابرة وجاءوا ركضا يسألونه الخبر، وكان الظلام مطبقا على الكهف وما حوله. فسألوا من آلمك أو قتلك. فقال وهو يجود بالنفس الأخير: لا أحد.
فانصرفوا وهم به هازئون.
تلك حوادث عولس وهي كثيرة منذ أنصرف الآشوريون إلى أمصارهم بعد أن فتحوا طروادة وخربوها. عاد ملكهم آغا ممنون جريحا إلى بلاده متحاملا على نفسه، وارتمى البطل مينيلاس على شواطئ مصر، وغرق آجاكس عند الصخور التي تتلاطم عليها أمواج البحر. أما عولس فقد كتب له أوفى نصيب من العذاب فظل السنين العديدة في جزيرة كاليبسو أسيرا عند الجن، أو مطروحا على ثبج البحر بمركبه القلق من جزيرة إلى جزيرة، وكان ابنه تليماك يقطع الآفاق بالبحث عنه راكبا على عجلة مجنحة أعطاه إياها نسطور الساحر.
يقول (كروازي) في كتابه عن الأدب اليوناني القديم: (لئن كانت الإلياذة قصة السير إلى الغزوة، أو الغزوة ذاتها، فإن الأوذيسة إذن هي قصة العودة).
وعلى مثال كروازي يحاول من يدرس الأوذيسة أن يؤرخها وينقدها، وبين وجوه الصحة والأصالة فيها، ووجوه الوضع والاختلاق، وكل ذلك لم يتعرض إليه الأستاذ دريني خشبه لأنه أسلف الكلام عليه مجملا في مقدمة الإلياذة، ولو فصل الكلام فيهما بعض الفصل فجعل لكل منها مقدمة خاصة لكان ذلك به أجدى وبفنه أوفى.
وكأن المقادير قد سيرت قلم الأستاذ خشبة، فقد أخرج الإلياذة والحرب في دنيانا قائمة. وكانت الإلياذة تاريخ حرب مصبوغة بالدماء يشتجر فيها الحديد وتستعر النار. فلما وضعت الحرب أوزارها وسكنت أصوات المدافع أخرج أمس للناس قصة الأوذيسة وكانت