ثم قدم إلينا قادم من أصدقائنا ففتحنا له الباب اضطراراً؛ فأوشك أن يرجع أدراجه لحبسة الهواء في داخل الدار.
قال متعجبا: ما بالكم تسجنون أنفسكم هذا السجن الثقيل في هذا اليوم البديع؟
قلنا: قدر أهون من قدر أليست حبست الهواء هنا أهون من نار الفضاء خارج الدار؟
فضحك وهو يقول: أي نار فضاء؟ إن الفضاء ليخفق بالنسيم الجميل، وإنه كما يقولون ليشفي العليل.
وتقدم إلى النافذة ففتحها، وتقدم غيره إلى نافذة غيرها ففتحها، فإذا بالنسيم كما وصفه جميل يشفي العليل!
ونظر بعضنا إلى بعض متضاحكين، وفاتنا ونحن خلاصة ذوي الرأي أن نجازف بالتجربة، فنغنم نصف النهار ونستريح من كل ذلك العذاب.
وطرافة القصة كلها فيما ساقه فيها الزعيم الكبير من العبرة وأحاطه بها من التهكم والفكاهة، ولكنه قد جار على نفسه هنا وجار على أصحابه بعض الجور لأخذهم بجانب الخطأ وحرمانهم جانب الانتفاع بحق (الرأفة) في الحكم أو بحق الصواب.
فلو اتفق أن الهواء كان على عادته من الحرارة والغبار في تلك الآونة لما كان بقاؤهم وراء النوافذ المغلقة خلواً من الرأي السديد أو بعيداً كل البعد عن وجه الصواب.
ونحسب بعد هذا أن الخروج من شم النسيم بأضحوكة واحدة أو بمفارقة واحدة فريضة لا فكاك منها لتحية العيد الذي يسمى بعيد الربيع وعيد الشباب والحب والجمال. وهل يستحق الربيع اسمه إذا تنزهت فيه الدنيا عن الأضاحيك والمفارقات؟
ربما كان من مفارقاته الخالدة أننا نحن المصريين احتفلنا به زمناً إذ كان الاحتفال به - بين ظهرانينا - احتفالا بالنجاة منا والخروج من بلادنا. وأننا قد وصلنا به ما تقدم من تأريخنا العريق كأنما كانت فترة بني إسرائيل عارضاً بين فصول الرواية الأبدية لا يدخل في حساب المؤلف الخالد مؤلف التواريخ والأحقاب، وقد كانت لتلك الفترة العارضة صفحة متجاوبة الأصداء، لا يخفت دويها المتتابع مع الزمن في مسامع بني آدم وحواء.