يوقدونها في وسط الغرفة، في حفرة حفروها فيها، لأنهم لا يملكون ثمن الحطب ولا الموقد، ولكني صبرت وولجت متوكلا على الله. ولما صافحني الفلاح بيده المتشققة الخشنة شعرت كأني ألمس مبرداً، ولكني صبرت (أيضاً) لعلمي بأن هذه اليد الخشنة هي التي تقدم إلى الخبز الذي أعيش به، والمال الذي اَخذ منه راتبي، وأشتري منه هذه الثياب التي أفتخر بها على الفلاح، وأخشى أن يدنسها بيته. ثم رأيت أطفاله وأردت نفسي على مداعبتهم، فإذا هم يحملون الأقذار على ثيابهم، والذباب على أفواههم، والقذى في عيونهم، والمرض في أجسامهم، وليس في القرية طبيب، وليس فيها دائرة صحة، وليس عند الفلاح مال، وليس عنده علم. أن السادة الذين أخذوا ماله وثمرة كدّه لم يعلموه، ولم يعطوه أجرة الطبيب. . . ثم جاء الفلاح بالأكل وأعقبه بالشاي، وإني اعفي القاريْ من وصف هذا الأكل وهذا الشاي. . . أخشى أن يصيبه الغثيان!
ويعود بي الفكر إلى حوران، وقد زرت تلك القرية مرة ثانية، وكان ذلك في وقت الحصاد، يوم حق للفلاح أن يتمتع بتعبه بعد سعي موسم كامل، يوم نال مكافأته على هذا التعب الطويل، والشغل المضني، فإذا الدائنون المرابون والجابي، ينتظرون على باب المنزل. فلما رجع الفلاح إلى منزله هاشاً باشاً مبتسماً، يحمل المال الذي حصل عليه بجد يمينه وعرق جبينه، اعترضوا طريقه قبل أن يصل إلى أولاده، فأخذوا المال كله فلم يف بالذي يطلبونه وبقى عليه للحكومة أربع وثلاثون ليرة. . .
يا للقانون! يا لحق الخزينة. . .
يا أيها الجابي شد ركابك! يا أيها الجندي أعدّ سوطك وسلاحك! يا أيها الناس أقيموا القيامة على هذا اللص الذي أكل أموال الدولة. . .
حل البلاء بساحة الفلاح المسكين، ونزل عليه جنود الدرك يقيمون حتى يؤدى المال، يتشهون عليه المآكل، ولا يرضون بغير الدجاج والخرفان، وهم في بيوتهم لا يأكلون إلا الزيتون والجبن، ويأخذون شعيره ليطعموه دوابهم ويضربون وجهه وظهره. . . أنهم يطلبون بقية الضريبة. . .