ولم يجدوا عنده إلا الفراش القذر، واللحاف الخلق، والبساط المخرق، والقدر الأسود، فباعوها بالمزاد العلني وتركوه على الأرض.
ولما رجع الجباة كلهم إلى العاصمة. . . وجمعوا ما ملأ الخزانة تبسم ولي الأمر، وقال لأعوانه:
- لقد اجتمع مال يكفي السنة كلها، وإننا لا نستطيع أن نرد هاتيك الوسائط كلها والشفاعات، فأعدوا مرسوماً بإعفاء فلان بك من الضرائب المتراكمة عليه من سبع سنين، وهي تسعة وعشرون ألف ليرة وسبعة وخمسون قرشاً. . .
أعفوه، ولكن تسعة عشر ألف فلاح صاروا ينامون على الأرض، لم يبق لهم فراش!
كنت أذكر ذلك وأنا أنظر إلى خط الفلاحين الذين يعودون إلى دورهم، وقد غاب أوله خلال الظلام، فأفكر في هؤلاء الفلاحين إلى متى يمشون؟ أما لممشاهم نهاية؟ أما لطريقهم أخر؟ أكتب عليهم أن يشاركوا البقر والحمير في عملهم وطعامهم وسكناهم؟ أكان لزاما عليهم أن يعملوا أبداً ليستريح ال (بك) أو (الباشا)؟ ويجوعوا ليأكل؟ ويفنوا جسومهم ونفوسهم ليأخذ هو الذهب فينفقه على موائد الخمور ومجالس الفجور؟
أيبق هؤلاء الناس جاهلين، يعيشون بمعزل عن الحياة، يترفع الشاب المتعلم عن الجلوس إليهم ومصافحتهم والسلام عليهم، وإذا بعثوه ليكون معلماً لهم، أو موظفاً فيهم، أقام الأرض وأقعدها ولم يدع وسيلة للتخلص من هذا (النفي) إلا توسل بها؟
إن الفلاحين في بلاد العرب، هم جمهرة السكان، هم حياة البلاد، هم الشعب، فإلى متى يبقون محرومين من العلم والصحة والنظافة والإنصاف والمدنية؟
فكروا في هذا أيها الشباب. . .
يا أيها الشباب الذين يعرفون القرية ومعيشتها وحالة أهلها. . .
يا أيها الشباب الذين يحبون بلادهم، ويريدون صلاحها. . .
أن الشاب النافع هو الذي يخدم ويعمل ويدع أثراً صالحاً، أما صاحب الجعجعة والكلام الفارغ فلا ينفع أحداً، إن ميدان القرية أحوج الميادين إلى همم الشباب، وذكائهم، ومعرفتهم ونشاطهم، لا أريد أن يترك الطلاب مدارسهم ليزرعوا الأرض، ويعيشوا في الحقل، ولكن أريد أن يفكروا بمثل (مشروع إنعاش القرى) الذي قام به في صيف سنة ١٩٣٣ نفر من