فأنه ليستمر عليها أياماً طوالاً حتى إذا شعر بحاجته إلى اللهو والراحة عمد إلى قطعة من الحجر ينحت فيها على شكل أقنوم أو تمثال جميل أو إلى يراعة يحبر على القرطاس ما تجيش به نفسه من المشاعر والأهواء، وكأن كتاب مدام دي ستال عن سياحتها في ألمانيا قد أثر فيه فيؤثر تلك البلاد برحلاته وتجوله ثم يتحول إليها ويلتحق بجامعة مدينة ينا، وهناك يبدأ حبه للعنصر الجرماني الأشقر حتى إذا عاد إلى بلاده أنكب كعادته على مطالعة كتب المشرقيات محاولاً استخراج برهان لشيْ يجول في خاطره، أو غاص في كتب علمية مختلفة بيولوجية وفيزيولوجية أو فلسفية وتاريخية يستنتج منها مادة لنظرية جديدة.
العوامل النفسية لدى الكونت دي غوبينو:
هي نظرية جديدة تتجاوب مع نفس هذا الشاب الأرستقراطي الذي أتت الثورة على امتيازاته فزحزحتها، وتتفق مع هذه النزعة الاستعمارية في الفتح والتوسع التي بلغت أشدها في القرن التاسع عشر أوحت إليه بها كل هذه العوامل المحيطة به، فهو لا يرتضي أن يتساوى مع غيره لأنه أرفع منهم شأنا، ولا يريد أن يكون وإياهم على صعيد واحد من حيث سلالة العرق وجريان الدم، لكن مثل هذه الأوهام لا يمكن أن تنطلي على طبقات الشعوب الأوروبية، لاسيما وأن مبادئ الثورة أعطتهم الدليل تلو الدليل على أن مسألة تأخر أناس وتقدم آخرين هو محض تهذيب وتثقيف أصاب منه واحد بسهم وحرم منه الآخر.
من هم إذاً؟ هم هؤلاء الشرقيون الذين انحطت مدنيتهم في هذه العصور الحديثة وقلت وسائل دفاعهم، مما جعلهم عرضة لأطماع سكان أوروبا الغربيين. وجد الكونت دي غوبينو ضالته فلم يبقى عليه إلا أن يدعم رأيه بالبرهان ويؤيده بالمنطق العلمي.
يدخل الكونت السلك السياسي الخارجي وتظهر له كتابات أدبية عديدة، منها مأساة في خمسة فصول وقصص فروسية مختلفة، وإنها لتمضي خمس عشرة سنة يقيم في أثنائها تارة في برن عاصمة السويسريين، وتارة في فرانكفورت من أعمال ألمانية حيث تجري له مقابلة مع الوزير الألماني الشهير بسمرك، ولكنه يظل في كل هذه المدة دائب العمل على البحث والتنقيب، وفي حوالي سنة ١٨٥٣ يدفع بنظريته إلى النشر.