الذين جاءوها من بلاد أقل منها) على رسلك يا أخي. . . ما هكذا يقال عن الأوطان. . .
ومالنا وهذا التحليل بل هذا التعلل!. لماذا فكرت فيه؟ ولماذا يخطر على بالك وقد عشت في بلاد كلها وطنية وحماسة للوطن! أليس بلاد كل إنسان هي (أم الدنيا) عنده؟
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة ... وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام
إن مصر هي مصر، وهي أم الدنيا، وهي مما ليس منه بد، رضيت بذلك يا صديقي أم حملت به تحميلا. . .
وها أنا ذا أترك هذا الأمر القليل. . . فقد سرح مني الفكر أمام هذه الخاطرات الخطرات. . وما جئتنا به من النزعات الغريبات، بل النزوات الغربيات. . .
وقد لاحت مني نظرة إلى النافذة نحو العلاء في السماء. وقد سكن الليل إلا من دوىّ المدينة العظيمة الساهرة، فإذا بقمر باريس يطل خلال الستائر الشفافة، ساخراً من ضوء مصباحي الصغير، ضاحكاً مما أنا فيه من تفكير، وما جئت به أنت يا صديقي من تعيير. . .
إن هذا القمر يذكرني بأصفى سماء يسبح فيها قمر. . يذكرني (بأقمار) في مصر كثيرة. في شمالها وصعيدها، في غيطانها وعند غدرانها، في الريف والحضر، عند السوق وتحت الشجر، على رمال الصحراء، عند سفح الهرم. بين المعمور وبين المهجور، في البحر وفي النهر، في الليل وبعض النهار، وحيداً وغير وحيد، ثم قمراً في آخر الليل عالقاً بذيل الظلام، محتفياً بموكب الفجر، مختفياً أمام ذات الخدر وقد أزاحت عن وجهها الحجاب. . .
هذا القمر المصري لا أنساه وصوت المزمار البلدي الشجي آخر الليل عند سفح الهرم، والأربعون قرناً تشاطرنا الحظ والإيناس. . .
هذا القمر لا أنساه مع نغمات الغاب، في جلسة الحصير بالريف، وقد نام أهل القرى في غسق الليل من قسوة النهار، إلا قليلاً منهم الساهر السامع، يستمتع وينتعش بنغمات الصبا والبياتي على صوت هذا الغاب، والهمّ به قد غاب، وتلك المواويل الحمر وفيها أجناس الناس أجناس، وفيها غرام أهل الغرام موكول إلى من هو رابض بين الضلوع، وإلى ما هو صاعد مع الأنفاس. . .
هذا القمر الساخر لا أنساه وهو ينظر إلينا صامتاً ونحن في البيداء. . فيزيد التيه تيهاً، ويجعل من الحقيقة خيالاً ومن العقل خبالاً، ومن الرمال حبالاً. . . ومن النفس حالاً وحالاً