للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

- هنالك في العراء، وسط رهبة السكون المخيف يزداد المجهول في علمنا مجهولاً. . .

هذا القمر الباسم لا أنساه في بيتنا الكبير العتيق ذي الحركة المدوية نهاراً، والسكوت المهيب ظلاماً، وقد أطل القمر عليَّ صغيراً كما يطل الليلة علي كبيراً. وكانت مربيتي العجوز، وقد احتوتنا رهبة الجدران العالية والغرف الواسعة، تقول لي: أطفئ المصباح يا ولدي. فهذا القمر ما أحلاه، وهذا السناء ماأبهاه، ثم تتولانا وحشة الليل فتأخذنا سنة من النوم، ثم نصحوا فإذا القمر قد تحرك في بروج السماء قليلاً. . . فتقول العجوز: سبحان الخلاق!. . .

وها أنا ذا اليوم هنا في باريس أطفئ الليلة هذا المصباح كما أطفأت أخا له من قبل، في تلك الليالي الخوالي، وهذا هو القمر لا يزال ما أحلاه، وهذا هو الضياء لا يزال ما أبهاه. . .

وأنت يا قمر باريس! هل أنت قمر ذاك الزمان، وقمر ذلك البيت الكبير العتيق، وقمر مربيتي العجوز! أم زادتك هذه السنون الثلاثون تحويلاً وتحويراً، كما زودتني الليالي والأيام تحميلاً وتعذيراً. . .

هنالك كنت تسمع أيها القمر حديثاً ساذجاً، بين صغير وعجوز، كلاهما مغرم بالقمر المنير وبما يغرى الوجه المنير في خيال هادئ ولطف جميل.

هنالك كان يسمع الصغير أحاديث العجوز، وهي تناجي القمر تسأله عن كل شيء وتطلب منه كل شيء، تدعوه أن يحمل لها في رهبة الليل وجلال الصمت سؤالها عند ربها (فالق الحب والنوى، وفاطر السماوات العلا) تسأله أن يحمل سلامها إلى أهلها فرداً فرداً، وأن يعود إليها في غدها لتراه في غدها. . .

ثم تقول وكأنها قد أدت صلاتها - نم يا ولدي. نم وادع ربك يستجيب لك، وأنت يا قمر مُسّيت خيراً وفي حفظ الله. . .)

ثم تقرأ الفاتحة وتنام إلى الصباح. . .

نعم إن وجه هذا القمر يذكرني الليلة تلك الأحاديث وذاك النغم وذلك الجو السحري البريء، فيثير مني في هذا الغروب وفي هذا السن تفكيراً. . قد يكون عن تلك السذاجة تكفيراً. . .

وإن المرء لينعم بالخيال كما يشقى بالذكرى، على أنه لا يدري أكان خيراً له أن تقف به

<<  <  ج:
ص:  >  >>