فإذا تجلت لنا ظروف القصة، وعلمنا أن صاحب القصة هو الحكم الثاني الذي وهب حياته لتشجيع العلم والعلماء. وعلمنا كيف تألب عليه الحساد وحرضوا عليه سواد العامة، بعد أن اتهموه بالمروق من الدين، فاقتحموا عليه قصره بعد أن هزموا حرسه، وكادوا يفتكون به فلم يجد وسيلة يعبر بها عن احتقاره لخصومه وتساميه إلا أن ينادي خادمه قائلا:
(عليّ بالغالية يا غلام)
وهنا تشتد دهشة الخادم فيقول:
(عجباً أهذا وقت الغالية يا أمير المؤمنين؟)
فيجيبه الحكم الثاني ساخراً:
(ويلك بما يُعرف رأسي من رؤوس العامة إذا قطع، إن لم يكن مضخماً بالغالية؟)
رأينا حينئذ في هذا الرد الساخر، أبلغ تحقير لخصومه، وأفتك إزراء بأعدئه الثائرين المتوثبين للإيقاع به.
٣ - بين الأمين وكوثر
ولعل قريباً من هذا الباب قول الأمين لمن بلغه نبأ اندحار جيشه:(ويلك، لقد اصطاد كوثر سمكتين وأنا لم أصطد إلا سمكة واحدة) وقريب من هذا قول الساخر الذي سئل عما يطلب قبل أن يصلب بلحظات يسيرة:
(لا أطلب غير الماء)
فلما سئل:(ألا تفضل الجعة؟)
أجاب:(كلا فقد أخبرني الطبيب أنها تسبب لشاربها مرض الزلال).
٤ - كيسان النحوي
من بدائع الجاحظ وطريف دعاباته، ذلكم التندر الكاريكاتوري البارع الذي رسّم به أعجب نموذج للذاهل الحالم وألصقه بكيسان النحوي فنعته:(بأنه يسمع غير ما يقال له، ويكتب غير ما سمع، ويقرأ غير ماكتب، ويفهم غير ما قرأ).