عابرة في الكتابين الأخيرين توصلا إلى تعريف الكتاب الأول، ولأقرر أيضا أن فن النقد الأدبي سلك إلينا المسلك الطبيعي في تدرجه وتطوره.
لم يكن الأدب العربي يعرف أن للنقد قواعد بأصول تعرف به مزايا هذا الفن ومدارسه وأساليبه وتقسيماته. وقد عرفنا نحن أبناء هذا الجيل أن المرحوم قسطاكي الحمصي نقل لنا ما كتبه جهابذة فن النقد عند الفرنسيين أمثال سنت بوف، ورينان، وتين، وفرديناند برونتير، وأميل فاجيه، وأدلف بريسون، وجول لوميتر. فكان رحمه الله مشعل المصباح الأول في جادّة هذا الفن في مستهل القرن العشرين أي في عام ١٩٠٧.
أما كتاب الديوان فقد كان معولاً في قبضة رجلين قويين اهويا به على ثلاثة من (أصنام الأدب) كنا نحسبهم آلهة في ثياب شعراء وقد حدث ذلك في عام ١٩٢١.
أما كتاب (الغربال) فقد صدر في عام ١٩٢٣ يحمل في طياته جواهر القواعد التي نقلها قسطاكي الحمصي عن الفرنسيين، ولباب فنون النقد التي أخذها هو عن كبار النقاد من الروس والأمريكان والإنجليز، ولم يتحرج من انتزاع المعول من قبضتي العقاد والمازني وهزّه في وجوه شعراء وكتاب، فأرعبتهم هزة المعول تلك أكثر مما أوجعتهم ضربات العقاد والمازني، ثم أخذ يعرفنا بالكاتب والشاعر والناقد، يوضح لنا معالمهم، ويعدد خصائصهم، ويشرح مزاياهم، فقال في الكاتب:
(. . . إنما الكاتب قلب يخبر، وعقل يفكر، وقلم يسطر، فحيث لا شعور فلا فكر، وحيث لا فكر فلا بيان، وحيث لا بيان فلا أدب.
(الشعر والفكر والبيان، ثلاثة لا يكون رجل كاتباً إلا إذا توفرت له أكثر من توفرها لسواد إخوانه في البشرية، ولولا تفاوت الناس بعمق الشعور واتساعه، وحدّة الفكر واندفاعه، وجمال البيان وجلائه، لكان من عرف القراءة والكتابة كاتبا. . .
(على سطح هذه الأرض قلوب عديدة، غير أن أكثرها تتدفق الحياة من حوله ومن فوقه، فتنحدر عنه انحدار الموجة عن الصخرة. إن أمثال هذه القلوب لا تخبر، وإن خبرت، فعن تخمة في البطن، أو تكمش، أو عن وجع في الرأس.
(وعلى الأرض عقول كثيرة، وأكثرها تتناوله الأشياء ولا يتناولها، وتغربله ولايغربلها، فأمثال هذه العقول لا تفكر بل تدور مع الليل والنهار، بقوة العادة والاستمرار.