وكان على قلة إجادته في شعره مفتوناً به مبالغا في تقريظه وقت إنشاده، يمزج ذلك بإشارات وحركات تستظرف منه، ولا يكاد يقر لأحد بالتقدم عليه في النظم، ولعمري لا أرى عبارة تفي بوصفه ووصف حركاته عند الإنشاد وقيامه وقعوده والتفاته واستدعائه الحاضرين إلى استماعه، فانه كان إذا أراد إنشاد قصيدة من نظمه بدأ أولاً بتقريظها ونبه الحاضرين إلى مواضع الإجادة منها، فإذا ألقوا إليه بسمعهم أنشد المطلع وسكت هنيهة كالمأخوذ من جودته، ثم التفت يمنة ويسرة مستطلعاً خبيئة رأيهم فيه، واستحلفهم بالله وبأنبيائه هل طرق، آذانهم مثله في عمرهم، وهل تهيأ لشاعر قبل ما تهيأ له فيه من رشاقة المبنى وغرابة المعنى وتناسب الشطرين، ثم يمضي في البيتين والثلاثة ويعود إلى الصمت والتفكر. ويقول سبحان المانح! كمترك الأول للآخر! وأمثال هذه الجمل التي اشتهرت عنه وصارت من لوازمه، ثم يمضي في الإنشاد، فإذا مر بتجنيس أو تورية وثب من موضعه وتمايل طرباً، ثم نظر للحاضرين وقال لهم اسمعوا من الفتى العربي اللعوب، تُفّ على المتنبي وسحقاً له، أين له السلاسة والسهولة؟ وهكذا حتى يتم القصيدة، فان رأى من السامعين استحساناً تمادى في غلوائه وأعجب وأطرب، وربما عارضه بعض من يحضره استجلاباً لطرائفه واستئناساً بمحاورته، فتصدر عنه النوادر ومحاسن الأجوبة الحاضرة. بلغني أنه حضر مرة مجلساً جمع لفيفاً من أهل الأدب فأنشدهم قصيدة من نظمه، وبالغ في استحسانها كعادته، وأخذ يستطلع طلع آرائهم فيها. فأنتبذ له صديقنا العالم الفاضل، والشاعر المجيد، الشيخ عبد الرحمن قُرَّاعة مداعباً، وقال له أخطأت في بيت منها فأدخلت حرفاً على حرف وهو مما لا يجوزه النحاة، فإما أن تسقطه أو تأتينا بشاهد على صحة قولك، ووافقه الحاضرون ومالوا معه على المترجم، فنكس رأسه هنيهة، ثم نظر إليهم كالمتعجب وقال يا ليت قومي يعلمون! وكان كثير الاجتماع بشيخ أدباء العصر الشيخ أحمد أبي البقاء الزرقاني، فلا يخليه مرة من شعر له ينشده إياه، ويعرض للشيخ ما يشغله عن الاستماع فيستلفته ويكثر من الإلحاح عليه بترك ما هو فيه والاصاخة إليه ويضايقه بذلك مضايقة شديدة، ولكن لا يكاد الشيخ يعرض عنه حتى تصدر منه نادرة ينقلب لها المجلس ضحكاً، فكان يقول فيه إن أبا الفرج عندي مشكلة من المشاكل لا أدري أهو ثقيل أم ظريف.