وكان أول اجتماعي به في مجلس أحد الأعيان وأنا شاب يافع متعلق بالأدب وأهله، ولم اكن لقيته من قبل، بل كنت اسمع به وأشتاق رؤيته فرأيت عجباً: رأيت شيخاً قصيراً دميم الوجه قد ذهبت إحدى عينيه، عليه جبة واسعة الأكمام وهو جالس في زاوية من المكان يملي على شخص حسن الخط دالية من الطويل منصوبة الروى جعلها تهنئة للخديو محمد توفيق باشا بقدومه من الإسكندرية، فكان منه من الوقوف عند كل بيت والإعجاب به على ما تقدم ذكره ما نبهني للالتفات إليه، ثم مر ببيت قافيته لفظة (ومعضداً) فوثب من مكانه ونبه الحاضرين إلى أنها تورية باسم الخليفة المعتضد بالله فلم يوافقوه، فاعرض عنهم واقبل على الكاتب يشرح له حسن هذه التورية وأنها لم تتهيأ له إلا بعد إعمال الفكر والروية حتى أضجره ورمي الدرج من يده، فغلبني الضحك واستظرفته وقصدت محادثته، فقلت لعل سيدي الأستاذ عارض بهذه القصيدة قصيدة أبى الطيب التي يقول في مطلعها:
لكل امرئ من دهره ما تعودا ... وعادة سيف الدولة الطعن في العِدا
فسكت ثم نظر إلي شزراً ولم يزدني على قوله: تِفّ على المتنبي، فاستغربت في الضحك وسألت عنه بعض الحاضرين فخبرني به فكدت أطير سروراً بلقائه، وأقبلت عليه امدح القصيٍدة وأذكر مواضع الإجادة فيها وأستعيدها منه، فأبرقت أسرته وأقبل علي أيما إقبال واسمعني بعض مقطعات من شعره، فقلت له: أما كان الأولى بهذه اللآلئ أن تنظم في سمط؟ فقال نعم يا سيدي إني مهتم بذلك وسيكون ديوانا مرقصاً، وامتد بنا المجلس فرأيت منه ما لو أردت إثباته برمته لطال بنا المقال. ثم فارقته وأنا أشوق الناس إليه، وكأني به أحد أبناء المنجم الذين ذكرهم الثعالبي في اليتيمة وأورد فصولا للصاحب بن عباد في وصفهم.
ومن غريب أمر المترجم أنه كان يستملح منه ما يستثقل من غيره، فقد رَوَوْا عن بشار أنه كان يصفر ويصفق ويتفل عند إنشاده وعن البحتري أنه كان يتقدم ويتأخر ويتلفت إعجاباً بشعره، وقد عيبا بذلك وعد من سقطاتهما التي نعاها عليهما الناعون بخلاف المترجم.
ومن غرائبه أنه كان معجباً بكنيته وكثيراً ما كان يتدرج بها إلي الانتساب لمن تكنى بها من الفضلاء المتقدمين كأبي الفرج ابن الجوزي وأبي الفرج الاصبهاني صاحب الأغاني وغيرهما، فلا يدع أحداً من المتكنين بها إلا وينتسب إليه، تارة لهذا وتارة لذاك، ثم ارتقى