وكيف رموه من أجل ذلك بكثرة الشر ولؤم الطبع، ما كانوا محقين وما كانوا منصفين، انهم لم يفطنوا إلى أن الشاعر ما قال بيتيه إلا بعد أن لاقى من قومه كل احتقار وقسوة؛ وكل ما من شأنه أن يجعل الشاعر يثور على البيئة التي نشأ فيها.
ثم هل تظن أن طرفة عنى قومه فقط حينما قال: (كلهم أروغ من ثعلب) أنا لا أظن ذلك بل أرجح أنه عنى الناس أجمعين، وأنه كان سيئ الظن بالبشر شديد الحذر منهم، أليس هو القائل في ذم الأخلاّء:
كل خليل كنت خاللته ... لترك الله له واضحه
ولد طرفة عبقرياً وشب عبقرياً، فأسمعنا وهو في زهرة العمر وفجر الشباب أناشيد الحياة والموت فأطربنا بأنغامه إلى حين، نعم إلى حين، فقد أخرس الزمن لهاته قبل أن يكمل الخامسة العشرين ربيعاً؛ وكأن طرفة كان يشعر بمصيره ويعلم أن أيامه في الحياة قصيرة؛ فراح يسخر بمن يردعه عن اغتنام لذائذ الدنيا ويزجره عن الخمر والنساء واقتحام الهيجاء:
ألا أيُّهذا الزاجري أحضر الوغى ... وان أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي ... فدعني أبادرها بما ملكت يدي
واعتقد طرفة أن (الكل باطل) ورأى أن هنالك شيئاً واحداً ثابتاً، هو أن الحياة تمضي، وما عدا ذلك أباطيل:
أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة ... وما تنقص الأيام والدهر ينفد
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطِّوَل المرخي وثنياه باليد
لعمرك ما الأيام إلا معارة ... فما استطعت من معروفها فتزود
وما دام طرفة يرى أن اسمه سيمحى من سجل الوجود وأن قبر البخيل النحام في شرع الفناء كقبر الغوي الضال الذي قضى عمره في الشرب واللعب:
أرى قبر نحام بخيل بماله ... كقبر غوي في البطالة مفسد
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد
ما دام يرى ذلك فقد صمم على أن يغتنم أويقات الحياة ويتمتع بكل ما تناله يده من لذائذ ومتع فعاش - وهذا طبيعي ممن مات ولم يبلغ الخامسة والعشرين من سنه - صريع الكأس والأعين النجل؛ واهباً روحه للجمال وحسه للذة، أما نفسه فظلت كبيرة لم يذلها