لهم دعوا هذه المرأة فأنها رجس، وغضوا عنها أبصاركم فأنها عورة، وانصرفوا عن هذه البقعة فأنها دار دنس وإثم، وقد طلع عليهم وهم يرتقبون طلعة الغادة العارية المغناج. . . فتصور ماذا يكون منهم!
لقد صفروا له وسخروا، ورموه بكل قبيح في القول، وسألوه أن يتجرد فيرقص لهم ويريهم غنجه، وعرضوا عليه كؤوس الخمر مترعة، وهو ماض في كلامه كأنما هؤلاء ذباب يحوم حوله من بعيد، بل أن الرجل ليحفل بالذباب وهو لم يحفلهم ولم يبال بهم. وتعب الشاغبون ومل الساخرون، وكان في القوم من يعرف الشيخ، فصاحوا بهم أن اسكتوا ويلكم نسمع ما يقول، وكانت سكته أخرى، وهي كل ما كان يتمنى الشيخ فتمكن فيها من آذانهم ونفذ إلى قلوبهم، فأصغوا ثم اطمئنوا، ثم خشعوا، ثم انقادوا إليه وتعلقوا به، وحل من قلوبهم محل (تلك)، ولكن حبهم إياها كان حباً سفلياً، وهذا حب طاهر مقدس. . . فلما انتهى كلامه، وقام ليخرج، قاموا معه وخرجوا وراءه، وتركوا المرقص لصاحبه وللشيطان. . . ولازمته أنا من ذلك اليوم كما لازمه كثير ممن كان هناك. . .
قلت: ألم تحفظ شيئاً من كلامه؟
قال: هيهات إنه تكلم بكلام علوي، كنا نحس به ينصب في القلوب انصباباً فتستشرفه وتتسامى إليه، ومازال يقول وهي ترتفع حتى خلصت من هذه الحمأة الدنسة التي كانت غارقة فيها، إلى الفضاء الأرحب وإلى الجو الطهور. إنه لم يتكلم كما أتكلم أنا وأنت، ولا كما كان (هو) يتكلم، فقد سمعته قبل ذلك اليوم، فما سمعت منه مثل هذا، وإني لأظن أن ملكاً نطق بلسانه فمن هنالك خرج الكلام نورانياً سماوياً.
قلت: مثل ماذا؟
قال: أنا رجل عامي، فإذا أعدته عليك لم آت به من ذهني الكليل إلا أرضياً منطفئاً، كالشهاب المنير إذا روته الأرض لم يكن على لسانها إلا صخرة باردة جامدة. . . أفتحب أن أرد عليك ما حفظت منه من ذهني أنا لا من ذهنه، وبلساني لا بلسانه؟