حدود قريته أو مدينته أو على الأكثر المقاطعة التي ولد ونشأ وتربى فيها، ولم يكن يعرف أنه فرد في وطن أوسع وأعظم من ذلك كله، وأن وراء تلك الحدود الضيقة التي نشأ فيها ملايين أخرى من الناس ينتمون جميعاً إلى نفس الوطن الذي ينتمي إليه؛ ولذا كان الرجل من الشمال إذا اجتمع برجل من الجنوب لا يعرف إلا أنه من الشمال وأن صاحبه من الجنوب دون أن يحس الصلة الوثقى التي تربط بينهما. وقد ساعد على ذلك أن الصيني مغلق على نفسه، ولا يحب الهجرة ولا السفر ولا الانتقال كمعظم الشرقيين، فهو يفضل الاستكانة والالتصاق بالبقعة التي وجد نفسه فيها. وقد نشأ عن ذلك تعدد كبير في اللهجات المحلية واختلاف عظيم بينها بحيث أن الرجل من إحدى المقاطعات لا يكاد يفهم اللهجة التي يتكلم بها غيره من مقاطعة أخرى. وكان ذلك كله عاملاً على ظهور الحركات الانفصالية وخاصة في أطراف الصين البعيدة. ومن هنا كان كثير من الكتاب يظنون أن الصين لا يمكن أن تعيش كدولة موحدة ما لم تخضع للحكم الأجنبي. وقد يكون لهؤلاء الكتاب العذر كل العذر فيما يذهبون إليه، إلا أن السيدة جالبريت ترى أن ذلك كله أخذ يزول شيئاً فشيئاً، وأخذ الشعور القومي يزداد بين الناس وخاصة بعد الغزو الياباني؛ فقد شعر الصينيون جميعاً أن أرضا عزيزة عليهم أخذ العدو يغتصبها منهم، فقاموا جميعاً يشتركون في الدفاع عنها ضد الغاصبين. وهكذا اختفت كل النزعات الانفصالية أمام الخطر المشترك، وأخذ الصينيون يحسون أنهم أبناء وطن واحد وأرض واحدة. وقد ساعد على ذلك حركات الهجرة من المناطق المحتلة أو المعرضة للغزو إلى الداخل، فقد عمل ذلك على تقريب اللهجات المتباينة، وأصبحنا نجد على ما تقوله المؤلفة:(في غرب الصين ما لا يقل عن أربعة عشر صنفاً من الناس نزحوا من مناطق ومقاطعات مختلفة يعيشون جميعاً عيشة واحدة، ويأكلون طعاماً واحداً، وينشدون أغاني وأهازيج واحدة انتشرت في أرجاء الصين جميعاً، وذلك ما لم يكن له وجود من قبل). ومع أن الوحدة في العادات لم تتبلور تماماً حتى الآن، ومع أن الاختلاف بين تقاليد كل فريق لا يزال اختلافاً قوياً صارخاً، إلا أن جالبريت ترى أن كل ذلك يسير في طريق الاندماج شيئاً فشيئاً ولكن بقوة، بحيث لا يتأخر اليوم الذي تصطبغ فيه الصين من أقصاها إلى أقصاها بصبغة واحدة من العادات والتقاليد.